لحظة تفكير

د/ إدريس الكنبوري: أسطرة الإسراء والمعراج .. .أي عقل يتنكب الحقيقة ويفتش في سقط الكلام عن مبررات واهية للإنكار؟

الخلاف حول الإسراء والمعراج هل حصل بالروح والجسد أم بالروح فقط خلاف حديث الوقوع وليس قديما كما يعتقد؛ إذ جمهور العلماء على أنه تم بالروح والجسد. ولم يظهر التشكيك فيه إلا في العصر الحديث مع بدايات القرن الماضي بسبب ظهور الاختراعات العلمية وانتشار النزعة المادية التي لا تؤمن إلا بما يقوله العلم البحت؛ إذ صار كل ما يمت إلى الغيب يفسر تفسيرا ماديا؛ مثلما حصل بالنسبة للطير الابابيل على سبيل المثال.مع كل هذا؛ الجديد في هذا الزمن ليس الخلاف حول هل تم الإسراء والمعراج بالروح والجسد أم بالروح فقط؛ بل الخلاف هو حول هل كان هناك إسراء ومعراج أصلا؛ إذ ظهر بيننا من يقول إنه مجرد خرافة.ثم هناك من يقر بالاسراء ولا يقر بالمعراج؛ ومن يقول بأن الأول حصل بالروح والجسد وبأن الثاني حصل بالروح فحسب.والقضية التي تحيرني: كيف يقف من يقرون بأن الإسراء والمعراج قد وقع بالروح فقط إلى جانب من ينكر الأمر من الأصل؟ أي قرابة وأي صلة نسب بين المعسكرين؟ وكيف التقيا؟.وهب أن الإسراء حصل بالروح والجسد؛ كيف يعجز من أسرى بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى عن العروج به إلى السماوات العلا بالروح والجسد أيضا؟ كيف انتصرت القدرة الإلهية على المسافة الأرضية وهزمت أمام المسافة بين الأرض والسماء؟. هو مجرد سؤال. لقد قال الله تعالى في بداية سورة الإسراء “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى”. ونحن المسلمين نقول: لا توجد كلمة في القرآن لم توضع في محلها.فما محل كلمة “عبد”. أليست تعني الإنسان كاملا مكتملا روحا وجسدا؛ أم تعني الروح والنفس فحسب؟ وهل شق على الله سبحانه أن يدلنا على أن القضية قضية نفس فقط لا جسد ونفس؟.وبالتالي: ما الداعي إلى أن يمجد الله سبحانه نفسه ويمتن على عباده بحادثة الإسراء لرسوله إذا كان الإسراء قد حصل مناما فقط. ألست تنام ليلا وترى الرؤى والأحلام وتعبر سنوات في بضع ثوان؛ فأي ميزة لإسراء النبي إذا كان قد أسري به مناما مثلما تسافر أنت مناما؟ وأي فائدة في أن يمدح الله سبحانه نفسه في سورة تحمل نفس اسم تلك الحادثة بأمر يحدث لجميع خلقه؟.إنها أسئلة للعقل بعيدا عن اللغو والعصبية.وجاء في سورة النجم عن المعراج”ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى”.وكل من يعرف العربية يعرف أن البصر للجسم والبصيرة للروح؛ وقد عززت السورة ذلك المنحى حين قالت”ولقد رأى”.

وكل من يعرف العربية يعرف أن البصر للجسم والبصيرة للروح؛ وقد عززت السورة هذا المنحى حين قالت”لقد رأى من آيات ربه الكبرى” لتدلنا على أن الرؤية تمت بالعين المجردة لا بعين النفس؛أي مناما.ولو أن الإسراء والمعراج تم فقط بالروح وليس بالروح والجسد معا ما كان ليرتد بعض العرب بعدما سمعوا بالحادثة. هل يعقل أن يحدث زلزال وسط المسلمين ويرتد قوم فقط لمجرد رؤيا منامية رآها نبي؟ إن الناس ترى منذ أن خلقها الله منامات ورؤى فما تغير شيء؛ ولقد رآى الملك العزيز في سورة يوسف رؤياه الشهيرة فما حصل للمملكة شيئ؛ كل ما في الأمر أن الرؤيا كانت في حاجة إلى تأويل.ولكن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن رؤيا تحتاج تأويلا؛ بل كانت واقعة تحتاج تصديقا. وهل يعقل أن من ينزل جبريل من السماء إلى الأرض لا يستطيع أن يرفع محمدا من الأرض إلى السماء؟؟؟.أي عقل يتنكب الحقيقة ويفتش في سقط الكلام عن مبررات واهية للإنكار؟.كل هذا ونقول: نؤمن بما أنزل إلينا والله أعلم بما تم.

لتفنيد حادثة الإسراء والمعراج يقول البعض إنها أسطورة وإن هناك معراجات أخرى حصلت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند اليونان والمسيحيين ومنها معراج بولس النصراني ومعراج المسيح عليه السلام.وهذا تلفيق وأصحابه ربما يجهلون أن الفكر الاغريقي الوثني مليئ بالصراع بين البشر والآلهة حيث كان البشر يصعدون إلى السماء ويهبطون بكل سهولة – في أدمغة الإغريق – ويتصارعون معهم بل ويسرقونهم القوة والحكمة والخلود. لكن مثل هذا التفسير يريد أن يقنعك بأن الإسراء والمعراج مجرد أسطورة على مذهب الأساطير القديمة؛ وهي فكرة تصل بك إلى أن الإسلام مجرد انتساخ لليهودية والنصرانية؛ ثم النتيجة أنه لا إسلام ولا هم يحزنون؛ ثم أخيرا أنت أيها المسلم مجرد شخص وثني يتعبد بشيئ لا أصل له.والغريب أن الذوق الأدبي في العصر الحديث في العالم العربي ارتبط بهذه الأساطير؛ والأدب أب الفنون وهو يشكل الروح الإنسانية ويصوغها كما يريد من خلال تركيز قيم معينة. ذلك أن الحداثة الأدبية في العالم العربي ارتبطت بإحياء أساطير اليونان في تبعية صريحة للفكر الغربي الذي حقق جزءا من نهضته الحديثة بنفض الغبار عن الفكر والأساطير اليونانية؛ فتم التغني بتلك الأساطير باعتبارها “قيما أدبية وجمالية” كما يقال؛ مثل عشتار وإيزيس وأوزوريس وعوليس وبابل وأدونيس وغيرها؛ وقراءة سريعة لقصائد السياب ونازك الملائكة والبياتي وعبد الصبور وغيرهم تكشف لك هذا. كان هذا دليلا على التجديد والحداثة والنهضة الأدبية. لم يتغن هؤلاء بخالد بن الوليد أو عمر بن الخطاب أو غيرهما من رموز التاريخ العربي الإسلامي لأن هذا يعد رجعية ومحافظة؛ والقليلون الذين تغنوا بأبي ذر الغفاري مثلا فعلوا ذلك لأنهم كانوا يعتبرونه اشتراكيا متمردا على الدولة والنظام؛ بل من هؤلاء من تغنى بإبليس أو الشيطان لأنه “أول من قال لا”.من هنالك حصل الدس في الثقافة العربية حتى انقلبت المفاهيم وتشوه الذوق وانتشرت الوثنية الفكرية؛ ولا راد لقدر الله.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button