لحظة تفكير

د علي القاسمي: السياسات اللغوية بين التطوير والتدمير

التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية:

يمكن النظر إلى التخطيط اللغوي بوصفه وضع الإجراءات المنهجية والعملية لتدبير الشأن اللساني في البلاد بما يعود بالنفع على الدولة. ويستند هذا التخطيط إلى منطلقات ومرجعيات وغايات، ويقوم على دراسات لسانية واجتماعية واقتصادية وقانونية، وتنتج عنه سياسةٌ لغويةٌ تلتزم بها الدولة، وتعمِّم تطبيقها في جميع مجالات الحياة. وإذا كانت السياسات الأخرى كالسياسة المالية أو السياسة التربوية أو السياسة الصحية أو السياسة الإعلامية، مثلاً، تختصُّ كلُّ واحدة منها بمجالٍ معيَّن، فإن السياسة اللغوية تهمُّ جميع المجالات في الدولة، لأن اللغة هي وسيلة التفكير والتعبير، والتواصل والتفاهم، وتراكم المعلومات وتوارثها، وأداة النفاذ إلى المعرفة في البلاد كلّها (للتوسع في الموضوع يُنظَر: بجيوي، الفاسي الفهري، كوبر، المسدي).

وطبقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن التنمية البشرية تُقاس بانتشار المعرفة بين السكان، وتمتُّعهم بالخدمات الصحّية الجيّدة، وحصولهم على دخلٍ كافٍ للعيش بمستوىً يليق بالكرامة الإنسانية؛ وهذا يتطلَّب إيجاد مجتمع المعرفة القادر على النفاذ إلى مصادر المعلومات، وتلقيها، واستيعابها، وتبادلها، والإبداع فيها، والإضافة إليها، بِيُسر وسرعة. وأداة النفاذ إلى مصادر المعلومات هي اللغة (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي).

وهناك من يرى أنه في وسعنا أن نقيس تقدُّم الأمَّة بمستوى الناس الثقافي ومدى اهتمامهم بالمكتبات والمتاحف والمسارح ودور السينما والموسيقى ومعارض الفنون التشكيلية ودور الثقافة (يقطين).  واللغة هي العنصر الأساس في الثقافة، لأن جميع الأنشطة الثقافية تؤدَّى من خلال اللغة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة. فاللغة هي الفكر.

غاية التخطيط اللغوي:

ولهذا كلِّه، فإن غاية التخطيط اللغوي هي تطوير اللغة لتكون أداةً فاعلة في تحقيق التنمية البشرية. ولما كان عدد اللغات في العالم يتراوح بين ثلاثة آلاف وسبعة آلاف لغة، بحسب الأسس والمعايير المختلفة التي تُعتَمد في تصنيف اللغات؛  ولما كان عدد الدول  الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة يبلغ في الوقت الحاضر أقل من مئتي دولة، فإن هذا يعني عدم وجود دولة أحادية اللغة، أي أن كل دولة تشتمل على مجموعاتٍ سكّانيةٍ عديدة تتحدّث بلغات متباينة، مما يسبِّب صعوبةً في التواصل، وتضارباً في المصالح، وخللاً في التماسك الاجتماعي، وخطراً على السلم الأهلي؛ لأن اللغة تؤثِّر في تفكير الناطقين بها، وتشكيل ثقافتهم وقيمهم، وتخليق عواطفهم وتوجّهاتهم، وتحديد هُويتهم،  وإعطائهم الإحساس بالانتماء الوطني، فوحدة الوطن من وحدة اللغة. فاللغة، كما يراها المفكِّر محمد عابد الجابري (1936 ــ 2010)، ” هي الوعاء الذي تنصهر فيه الهُوية ووحدة الوطن والمواطنة، ففي هذا الوعاء وبه تتحقَّق المشاعر ووحدة الوطن ووحدة الذاكرة ووحدة التطلعات…” (الجابري: 91).

ولهذا نجد أن معظم السياسات اللغوية في العالم ترمي إلى اختيار لغة وطنية مشتركة واحدة وتعميمها بوصفها الضمانة لوحدة البلاد، وتطلق عليها اسم ” اللغة الرسمية”، على الرغم من وجود لغاتٍ وطنية أخرى. وثمَّة دول قليلة جداً تتبنى أكثر من لغة رسمية واحدة، مثل سويسرة التي تعتمد أربع لغات رسمية، وقد حصل ذلك نتيجةَ ظروفٍ تاريخيةٍ خاصَّة، وهو استثناء لا يُقاس عليه.

تاريخ التخطيط اللغوي:

يدلُّنا التاريخ على أن التخطيط اللغوي قديمٌ قِدم تأسيس الدول. وقد سعى الملوك في الدول القديمة إلى فرض لغة واحدة في المناطق التي يسيطرون عليها، رمزاً لسلطةٍ واحدة.  فعندما برز الآشوريون (1220 ـ 609 ق.م.) قوة عالمية، حاول ملوكهم توحيد الشعوب العروبية أو الجزيرية، وفرض لغتهم الأكدية الآشورية التي كانت تُدوَّن بالكتابة المسمارية، لغةَ تواصلٍ مشتركة في المناطق التي كانت تحت سيطرتهم في الأحواز والعراق وسوريا وفلسطين ومصر، خاصَّةً في عهد الملك أسرحدون (حكم من 680  ـ 669 ق.م.) وابنه الملك آشوربانيبال (حكم من 668 ــ 627 ق.م.) ،  كما تذكر دائرة المعارف البريطانية  (بريتانيكا).

وعلى الرغم من أن هذه الشعوب تتكلَّم بألسن تنتمي لأسرة لغوية واحدة هي مجموعة اللغات الجزيرية أو العروبية (التي يطلق عليها الأوربيون اسم اللغات الحامية السامية)، وعلى الرغم من أن اللغة المصرية القديمة كانت تدوَّن بالكتابة بالهيلوغرافية، وهي كتابة عريقة وضعها أبناء الكنانة بعد فترة قصيرة من ظهور الكتابة المسمارية حوالي سنة 3600 ق.م.، كما تخبرنا (موسوعة المعرفة) والموسوعة الفرنسية (يونفارساليس) و (السليمان 24 – 27)؛  فقد حاول الملوك الآشوريون اتخاذَ لغةٍ رسميةٍ واحدة هي الأكدية الآشورية بكتابتها المسمارية، لأنهم كانوا يدركون أن اللغة قوةٌ بحدِّ ذاتها، تمنح أهلها سلطة وتميُّزاً، وتوحِّد الناطقين بها، وتيسِّر التواصل بين أطراف امبراطوريتهم وتسرِّعه..

ويخبرنا التاريخ كذلك أن بعض اللغات وجِدت فعلاً وتطوَّرت كمّاً وكيفاً بفضل قرارٍ رسمي يمثِّل السياسة اللغوية للدولة. فاللغة الفرنسية، مثلاً، لم يكُن لها وجودٌ فعلي في الدوائر الرسمية بفرنسا قبل قرار اتخذه الملك فرانسيس الأول سنة 1539 يقضي بجعل لغته الفرنسية لغةً رسمية في الإدارة والمحاكم، على الرغم من وجود حوالي 24 لغة ولهجة وطنية في فرنسا في مقدِّمتها: الألزاسية، والكتلانية، والكورسيكية، والبريتونية، والغالية.

(L’histoire du française)

ولم تدوَّن قواعد اللغة الفرنسية إلا سنة 1550 .  واليوم يمنع القانونُ الفرنسي رقم 94ــ 665 الصادر بتاريخ 4/8/ 1994 (المعروف باسم قانون توبون، وتوبون هو وزير الثقافة آنذاك) استخدامَ اللغات الوطنية الأخرى استخداماً رسمياً. ويعدُّ السياسيون الفرنسيون “أن اللغة الفرنسية هي أحد العوامل الأساسية في الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وتساوي الفرص” ، كما جاء في خطابٍ لأحد رؤساء الوزارات الفرنسية. (أية سياسة للغة الفرنسية؟)

وفي مرحلة الاستعمار الحديث بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي، فرضت الدول الاستعمارية الأوربية لغاتها على مستعمراتها في إفريقيا  وآسيا والأمريكتيْن (ومنها معظم البلدان العربية) لتضمن تبعيتها الثقافية والاقتصادية حتى بعد رحيل الاستعمار عنها.

دور السياسة في تطوير أو تدمير اللغة:

قد ترمي السياسة اللغوية إلى جعل لغة من اللغات الوطنية اللغة الرسمية في البلاد، فتسعى إلى تنميتها وتطويرها وتيسير استعمالها. وثمة إجراءات عديدة لتطوير أية لغة: مثل الإجراءات القانونية، كما هو الحال في قانون توبون في فرنسا؛ والإجراءات اللسانية الرامية لتيسير نحو اللغة وكتابتها، والإجراءات المؤسّساتية المتمثِّلة بتأسيس مجامعَ لغويةٍ ومعاهدَ ترجمةٍ ومراكزَ بحوثٍ لدراسة طرائق تعليم اللغة لإبنائها ولغير الناطقين بها؛ والإجراءات الثقافية التي تعمل على تعميم استعمال اللغة الرسمية في وسائل الإعلام، وتشجيع الترجمة منها وإليها؛ والإجراءات التربوية التي تجعلها لغة تدريسٍ وبحثٍ في المنظومة التعليمية. وقد تطرّقتُ إلى هذا الجانب من السياسة اللغوية في دراسات سابقة، خاصَّةً في  كتابي ” لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي”، وكتابي ” السياسة الثقافية في العالم العربي” (القاسمي: 2008 و 2014).

بَيدَ أن السياسات اللغوية قد تعمل على تهميش لغةٍ ما أو محاصرتها والإضرار بها، أو حتى تدميرها والقضاء عليها. وعلى الرغم من وجود آلاف اللغات في العالم، فإنه لا يُستخدم منها في العالم الرقمي سوى أقل من 100 لغة، وحوالي 43 بالمائة من مجموع اللغات هي لغات محكيَّة معرَّضة للانقراض بسبب العولمة، وأن ما بين 250 و 300 لغة تنقرض سنوياً بفعل السياسات اللغوية والميل إلى استعمال اللغات الوطنية أو العالمية الأوسع انتشاراً (اليونسكو). ويتناول مقالنا هذا السياسات اللغوية التدميرية، مستمدين الأمثلة مما هو معمول به في البلدان العربية.

السياسات المعتمدة في تدمير اللغة العربية:

إن السياسات اللغوية المعتمَدة في البلدان العربية تؤدي إلى تهميش اللغة العربية الفصيحة المشتركة وتدميرها، من وجهة نظرنا. ونسوق هنا بعض هذه السياسات:

1 – سياسة الثنائية اللغوية في الدولة (أو الاستعمار اللغوي):

على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من دساتير البلدان العربية تنصُّ على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، فإن الدولة تعتمد لغة المستعمِر القديم (الإنكليزية في دول المشرق “العربي”، والفرنسية في دول المغرب “العربي”) في المؤسسات الاقتصادية والمالية كالشركات والمصارف الوطنية والأجنبية، وفي التعليم لغة تدريس، خاصَّةً التعليم العالي، حيث تُستعمَل اللغة الأجنبية لغة تدريس العلوم النظرية والتطبيقية في كلّيات العلوم والهندسة والزراعة والطبّ والصيدلة وغيرها، على الرغم من عدم تمكُّن الطلاب وكثير من أساتذتهم من اللغة الأجنبية.  وينحصر استعمال العربية الفصيحة المشتركة في الدراسات الإنسانية والاجتماعية.

فالدول العربية، في الواقع، تعتمد سياسة الثنائية اللغوية: لغة أجنبية ولغة وطنية، وتحدِّد لكل منهما وظيفتها ومجالات استعمالها. وتضطلع اللغة الأجنبية، في حقيقة الأمر، بوظيفة أساسية في المؤسَّسات الاقتصادية والمالية والعلمية والتقنية. ونظراً لأن هذه المؤسَّسات هي الأكثر مردودية مادية، والأعلى مكانة اجتماعية، فإن هذه السياسة تحيق باللغة الوطنية ظلماً في عقر دارها، على حد تعبير اللساني المغربي عبد القادر الفاسي الفهري، وتوجِّه إهانةً مقصودة إلى لغة القرآن الكريم والشعوب الناطقة بها.

ويؤدّي هذا الوضع إلى توليد انطباعٍ لدى المواطنين مفاده أن اللغة العربية لغةٌ قديمة لا يمكنها التعبير عن العلوم العصرية، وهو انطباع يتسبَّب في الشعور بالنقص لدى المواطنين الذين لا يجيد معظمهم اللغة الأجنبية.

ومن ناحية أخرى، يتسبَّب هذا الوضع الشاذ بشعورٍ بين معظم المواطنين الذين لا يجيدون اللغة الأجنبية بأن لغة الدولة هي غير لغة المواطنين، ما يؤدّي إلى انفصام بين الدولة ومواطنيها، وبعبارة أخرى، نشوء شعورٍ سلبي متبادل بين المواطنين وموظَّفي الإدارة: يشعر المواطنون باستعلاء موظَّفي الإدارة عليهم لمخاطبتهم بلغةٍ أجنبية، ويشعر الموظَّفون بجهل المواطنين لعدم تمكُّنهم من ملء استمارةٍ باللغة الأجنبية مثلاً. ويسهم هذا الاستياء لدى المواطنين في الإرهاص لخلخلة السلم الأهلي واندلاع اضطراباتٍ اجتماعية.

ولقد قمتُ بدراسةٍ إحصائية على سُلَّم التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنوياً، ويرتّب فيه الدول الأعضاء في الأُمم المتحدة طبقاً لدرجة التنمية البشرية فيها، فوجدتُ أن جميع الدول التي تستخدِم لغةَ المستعمِر القديم لغة عملٍ فيها، هي من الدول ذات التنمية المتدنية (تورية تعني الدول المتخلّفة)، ومنها ـ مع الأسف ـ بلداننا العربية؛ وأن جميع الدول ذات الرتب العالية في السلَّم تستخدم لغاتها الوطنية. (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: 22ــ27).

ومما يدفعنا إلى الاقتناع بأن التمسُّك باستعمال لغة المستعمِر القديم لغة عمل في القطاعات الحيوية في بلداننا هي سياسةٌ معتمدة مقصودة، ما نلمسه من انفصام بين المثقَّفين وأصحاب القرار حول الموضوع؛ إذ يصرُّ المثقفون العرب على ضرورة استعمال اللغة العربية الفصيحة المشتركة في تلك القطاعات الحيوية وجميع المجالات الأخرى في بلدانهم، ويصرّ أصحاب القرار بالإبقاء على لغة المستعمِر القديم. فقد عُقِدت خلال الستين سنة الأخيرة عشرات المؤتمرات لوزراء التربية العرب، ووزراء الصحة العرب، ووزراء الزراعة العرب، ووزراء المالية العرب، ورؤساء الجامعات العربية، وعمداء كليات الطب، وعمداء كليات الصيدلة، وعمداء كليات العلوم، وعمداء كليات الهندسة، إلخ.، وجميع هذه المؤتمرات ألحَّت في توصياتها على ضرورة تعريب تلك القطاعات فوراً أو في غضون سنوات معدودة، خاصة أن جميع المصطلحات العلمية والتقنية الأساسية متوافرة باللغة العربية. ولكن أصحاب القرار لا يعيرون أذنا صاغية. (القاسمي، 2008: 115 ـ 137).

ويطلق بعض اللسانيِّين مصطلح “الاستعمار اللغوي” على هذه الوضعية، وهو مصطلح ابتدعه اللساني البريطاني روبرت فيلبسون في كتابه ” الاستعمار اللغوي” الذي صدر سنة 1992. ويرى فيلبسون أنه يمكن تنفيذ الاستعمار اللغوي عن طريق المؤسسات الدولية مثل البنك العالمي  وصندوق النقد الدولي من خلال قروضهما الخاصَّة بالتعديلات البنيوية الاقتصادية التي تنفِّذها حكومات الدول النامية بضغط من الدول الاستعمارية الكبرى. (يُنظر فيلبسون، الشمري، القاضي).

فالمستعمِر لم يعُد موجوداً بجيوشه ورجالات إدارته في بلداننا، ولكنه موجود فاعل بلغته وثقافته واقتصاده، ويعتمد في تحقيق مصالحه على نخبة حاكمة من أهل البلاد تؤمن بطروحاته وتوجّهاته، وارتباط مصالحها بمصالحه.

2 ـ السياسة التربوية:

تؤكِّد تقارير التنمية البشرية التي يصدرها سنوياً برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أن تحقيق التنمية البشرية في البلاد يتطلَّب عناية الدولة بالتعليم والخدمات الصحّية وتوفيرهما بجودة عالية لجميع المواطنين، والتزامها بالديمقراطية وتكافؤ الفرص بين أبناء البلاد. وقد تبنَّت تلك السياسة التنموية كثيرٌ من الدول التي كانت أكثر تخلفاً من البلدان العربية قبل حوالي ستين عاماً، فأصبحت اليوم من الدول المتقدِّمة حقاً، مثل ماليزيا، وكوريا التي كانت أفقر دولة في آسيا، وفنلندا التي كانت أفقر دولة في أوربا،  والصين، وإيران، وتركيا، وغيرها.

ولكننا نجد أن الأمّية تنتشر في البلدان العربية، بسبب عدم تعميم التعليم الإلزامي الذي تنصُّ عليه دساتير الدول العربية. إضافة إلى تضاؤل جودة التعليم في المدارس الحكومية ما يؤدّي ــ مع أسباب أخرى ــ إلى تسرُّبٍ كبير من المدرسة. وقد أشارت المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) إلى ارتفاع عدد الأميين في البلاد العربية إلى 72 مليون شخص ممَّن تزيد أعمارهم عن 15 عاماً بحيث تصل نسبة الأمّية في الوطن العربي إلى 35 بالمئة من البالغين(ويكبيديا).

وتعلن الحكومات العربية، المرَّة تلو المرة، أنها ترفع يدها عن التعليم والصحَّة وتتركهما للقطاع الخاصّ، بحجّة اتباعها سياسة الاقتصاد الحر والانفتاح على العالم. ونتيجة لهذه السياسة المناقضة لجميع مبادئ التنمية البشرية، فإن النظام التعليمي في البلدان العربية أصبح ساحة تتصارع فيها مصالح الطبقات الاجتماعية والدول الأجنبية. فكلُّ طبقة اجتماعية وكلُّ دولة ذات أهداف استعمارية، تسعى إلى أن تكون مخرجات التعليم في صالحها، وأن يُنتِج مجتمعاً يخدم مصالحها. وهكذا فإن النظام التربوي المعمول به في البلدان العربية هو لخدمة الطبقة العليا، ويعمل على إعادة إنتاج الطبقية المجتمعية، ولا يوفر تكافؤ الفرص بين المواطنين، كما أنه لصالح دول استعمارية بذاتها. فالمدارس في البلدان العربية على ثلاثة أنواع:

أ ـ المدارس الأجنبية:

وهذه المدارس تركها المستعمِر في البلدان العربية، وتوسَّعت بعد الاستقلال.  وهي، عادةً، مدارس فرنسية في بلدان المغرب “العربي”، ومدارس بريطانية أو أمريكية في بلدان المشرق ” العربي”. وتدرّس هذه المدارس المنهج الأجنبي باللغة الأجنبية، ويكون درس اللغة العربية الدارجة اختياريا عادة ولا يؤثر في نتيجة الطالب. ويجيد خريجو هذه المدارس اللغة الأجنبية، ويتشبّع معظمهم بالثقافة الأجنبية، ويُزرع في لاوعيه احتقار الثقافة العربية وأهلها. ونظراً للأجور الدراسية المرتفعة التي تتقاضاها هذه المدارس، لا يستطيع الانخراط فيها إلا أبناء رجال السلطة وأبناء الطبقة الموسرة. وبفضل طبقتهم الاجتماعية وإجادتهم اللغة الأجنبية، فهم المؤهلون لحكم البلاد وإدارة الشركات والبنوك وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والمالية، إذا لم يهاجروا إلى الدول التي تربّوا على ثقافتها بسبب شعورهم بالاغتراب في أوطانهم.

ب ــ  المدارس الأهلية أو الخاصَّة:

وهي مدارس يقيمها رجال الأعمال، وتتوافر في المدن الكبيرة فقط، وتتوخّى الربح في الأساس، وتتقاضى أجوراً عالية ترهق كاهل الطبقة المتوسطة. وتستخدِم هذه المدارس المنهج التعليمي الوطني مع عناية خاصَّة باللغة الأجنبية، وتؤهِّل خريجيها للعمل مساعدين لخريجي المدارس الأجنبية، بفضل معرفتهم المتوسطة باللغة الأجنبية التي هي لغة عمل في المؤسَّسات الاقتصادية والمالية والخدمية.

ج  ــ المدارس الحكومية:

وهي مدارس شبه مجانية تتولّى إنشاءها وزاراتُ التربية والتعليم، وهي سيئة التجهيز وتعاني اكتضاض الصفوف، وغياب المدرِّسين الذين ينقصهم الدافع والإعداد الجيّد. وعلى الرغم من أن دروس اللغة الأجنبية تحظى، في هذه المدارس، بأفضلية كبيرة على اللغة العربية من حيث عدد الساعات، والمُعامل المخصَّص لها في الامتحانات، فإن خريجي هذه المدارس لا يجيدون عادة اللغة الأجنبية. ولذلك فإن معظمهم لا يحصل على وظيفة في سوق العمل الذي يعتمد اللغة الأجنبية، ما ينتج عنه بطالة قاتلة بين خريجي هذه المدارس، فيضطر معظمهم إلى الهجرة في قوارب الموت إلى أوربا بحثاً عن إنسانيتهم، أو الانضمام إلى الحركات المشبوهة، فيصيرون وقودا للاضطرابات الاجتماعية والثورات الشعبوية والحروب الأهلية.

إن الانفصام بين لغة التدريس في المدارس الحكومية ولغة العمل في المؤسَّسات المالية والاقتصادية والعلمية والتقنية التي تعتمدها الدول العربية، يُسهم في تفاقم مشكلة البطالة بين الشباب العرب. فتعداد سكان الدول العربية حالياً 365 مليون نسمة، نصفهم في العشرينيات من العمر، وتبلغ نسبة البطالة حوالي 30 بالمئة من مجموع القوى العاملة، مع أن متوسّط البطالة على مستوى العالم 13 بالمائة. (حسين).

يكفي أن نشير هنا إلى أن المدارس الأمريكية في كوريا، مثلاً، هي للأمريكان والأجانب فقط وليس للكوريين الذين تتعهّد دولتهم بتربيتهم وتعليمهم وعلاجهم مجاناً في مدارسها الوطنية ذات الجودة  العالية، وأن اللغة الإنجليزية ليست لغة ثانية في البلاد بل هي لغة أجنبية من بين عدة لغات أجنبية يستطيع الطالب الاختيار منها في المدرسة الثانوية، وأن جميع المواد وفي كلّ التخصصات وفي جميع المستويات، تُدرَّس باللغة الكورية الفصيحة المشتركة. وأنَّ التعليم على نفقة الدولة. وهكذا استطاعت كوريا الجنوبية أن تحتل الرتبة 12 في سلم التنمية البشرية متقدِّمة بذلك على دول أوربية عريقة كفرنسا وإيطاليا وسويسرة. فالنظام التربوي الكوري يوفِّر تكافؤ الفرص لجميع المواطنين؛ وأصحاب المؤهلات الجادون هم الذين يديرون البلاد، وليس بفضل الطبقة التي ينتمون إليها والمدارس الأجنبية التي تعلّموا فيها.

3 ــ السياسة الإعلامية:

إن وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية والرقمية هي التي تشيع ثقافة المجتمع وقيمه ومُثُله وعاداته، وتعزِّز المعرفة التي يكتسبها الفرد من الأسرة والمدرسة والمجتمع.

لا تسعى السياسة الإعلامية المتبعة في البلدان العربية إلى تعميم العربية الفصيحة المشتركة، كما فعلت ألمانيا مثلاً خلال القرن التاسع عشر فنجحت في نشر اللغة الألمانية المشتركة عن طريق التعليم والإعلام وترسيخ عادة القراءة لدى المواطنين، ونتيجة لذلك هُمِّشت اللهجات الألمانية التي كانت سائدة في ولاياتها المتعددة.

إن السياسة الإعلامية المُتَّبَعة في بلداننا العربية ترمي إلى قتل عادة القراءة لدى الأفراد، وبعبارة أخرى تجهيل المجتمع. ومن الإجراءات المتبعة في الإعلام العربي لتحقيق ذلك ما يلي:

أ ـ تقديم معظم البرامج بالعامّية الدارجة وليست بالعربية الفصيحة المشتركة، التي هي لغة القراءة والثقافة. إن الإذاعات ومحطات التلفزة والفضائيات والأفلام السينمائية تستخدم اللهجات الدارجة بصورة مكثَّفة. وتُكثِر كلُّ دولة عربية من استيراد المسلسلات التلفزيونية الأجنبية، ودبلجتها بلهجتها العامية، ما يرسِّخ العاميّة ويضرُّ بقدرة الفرد على اكتساب الفصيحة المشتركة، وعلى القراءة التي تتمُّ عادةً باللغة الفصيحة المشتركة، ويحدُّ من إنتاج المبدعين الوطنين كتّاباً ومخرجين وممثلين وغيرهم.

ب ـ إعطاء الأولوية لبرامج الألعاب الرياضية والأغاني والرقص على البرامج التي تتناول الكتب العلمية والأدبية بالعرض والنقد وتحفِّز الجمهور على اقتنائها وقراءتها.

ج ـ خلو البرامج الإعلامية من المسابقات المعرفية التي تشجّع المواطنين على اكتساب المعارف بالقراءة والدراسة باللغة العربية الفصيحة المشتركة.

4 ـ سياسةُ وأدِ عادةِ القراءة في المجتمع:

القراءة هي الوسيلة الناجعة للنفاذ إلى مصادر المعلومات وتكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية. ولهذا فإن الدول المتقدِّمة أو الدول التي تعمل على إحداث التنمية البشرية، تشجِّع عادة القراءة وتنشرها وتنمّيها بجميع الطرائق.

ولكن منذ ” استقلال” الدول العربية في أواسط القرن الماضي، اتُبِعت سياساتٌ ممنهجة لوأد عادة القراءة وإنجاز التجهيل المطلوب. وبعض هذه السياسات موروثة من فترة خمول الثقافة العربية الإسلامية التي سادت بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656 هـ / 1258 م ودامت أكثر من خمسة قرون إلى ما يسمى بعصر النهضة العربية في أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وتُسمَّى تلك الفترة بعصر الانحطاط.

وقد استمرَّت بعضُ تقاليد عصر الانحطاط في معاهدنا التقليدية حتى يومنا هذا. فقد يقوم المؤرِّخون والمعلِّمون بتقسيم الزمن إلى عصور أو فترات تاريخية ذات سمات مشتركة لتيسير دراسة التاريخ، ولكنَّ أفكار عصرٍ من العصور وقيمه لا تختفي فجأة عند نهاية ذلك العصر، بل هي عابرة للعصور، وتبقى حيّة ماثلة في أذهان بعض الناس بعد انقضاء عصرها، لأسباب اجتماعية وثقافية لا مجال لذكرها. وهكذا يحقُّ لهؤلاء الناس أن يُنسبوا إلى ذلك العصر الذي توارثوا تقاليده.

وفي عصر الانحطاط هذا، الذي سيطر فيه المغول والمماليك والأتراك على العالم العربي،  أصيبت الثقافة العربية الإسلامية بنوعٍ من الجمود والتكلُّس، فتدنّى البحث العلمي، وخفتت شعلة الإبداع، وساد التعصّب المذهبي، وتراجع التعليم، وانحصرت الثقافة العربية في موادَ دراسيةٍ محدودة هي النحو والفقه والتوحيد، واقتصرت بنية العقل العربي على طريقةٍ واحدةٍ في التفكير هي “القياس”، الذي وقع الإفراط في استعماله دون التقيُّد بشروط صحّة هذا النوع من الاستدلال، وانتقلت هذه البنية الفكرية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر، كما يرى المفكر محمد عابد الجابري في كتابه ” نحن والتراث” (الجابري:18)

وأهمُّ مخلَّفات عصر الانحطاط التي استمرت في بعض المعاهد التعليمية التقليدية أو بعض خريجيها حتى يومنا هذا، وأسهمت وتسهم في دعم سياسة وأد عادة القراءة المتبعة في بلداننا العربية، ما يلي:

أ ــ تفضيل الحفظ على الفهم:

في عصر ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، كان العِلم إنسانياً نفعياً يقوم على التفكير والفهم والاستيعاب والتطبيق العملي، انطلاقاً من توجيهات القرآن الكريم الذي حث المؤمنين على التفكير في الخلق والطبيعة والكون، في آيات كريمة عديدة مثل:

(وسخَّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعا منه إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (سورة الجاثية: 12ـ13)

وكذلك انطلاقاً من الأحاديث النبوية الشريفة مثل:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) [أخرجه مسلم والترمذي والنسائي].

وفي عصر ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، طوّر العلماءُ منهجيةً رصينة لاكتساب المعرفة. وقد لخص ابن عبد البرّ النمري القرطبي (368 ـ 463 ه) في كتابه ” جامع بيان العلم وفضله” خطوات تحصيل العلم بقوله:

” أوَّل العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر”(القرطبي)

إلى جانب منهجيات البحث العلمي التجريبي.

ولكن في عصر الانحطاط، كاد تحصيل العلم يقتصر على خطوةٍ واحدة هي الحفظ، خاصَّة حفظ المنظومات، وأمسى هَمُّ الطلبة حفظ النصوص بغض النظر عن الفهم أو التطبيق.. ولهذا فإن الانحطاطيين اليوم، ورثوا عادة حفظ النصوص دون فهمها أو العمل بها.

ب ـ تفضيل النحو على القراءة في المدارس:

لقد ورثت مؤسَّساتُنا التعليمية الحالية من عصر الانحطاط ـ مع الأسف ـ تقليدَ إهمال القراءة في المنهج، وإعطاء الأهمّية للنحو والقواعد. فهي لا تخصِّص ساعات لتعويد الطلاب على القراءة والمطالعة. وتخلو غالبية المدارس الابتدائية والثانوية في العالم العربي من المكتبات التي ينبغي أن يرتادها الطلاب ويستعيرون منها الكتب التي تلائم أذواقهم وسنّهم لقراءتها في أوقات الفراغ. وإذا وُجِدت هذه المكتبات فإن وزارة التربية لا تمدّها بالمطبوعات الجديدة بانتظام. ونذكر هنا أن وزارات الثقافة في الدول الإسكندنافية، مثلا، التي لا يتعدى تعداد السكان في كلِّ دولة منها بضعة ملايين، تشتري حوالي 1000 نسخة من كل كتاب جديد لتوزيعه على المكتبات العامة التابعة لها، وهكذا تشجِّع التأليف والقراءة، في حين أن بعض الدول العربية التي يتراوح تعداد سكانها عشرات الملايين لا تشتري أكثر من خمسين نسخة من المؤلِّف الذي يلجأ إليها لدعم كتابه الجديد، وتتركها في مخازن الوزارة، وهكذا تثبِّط التأليف والقراءة.

وفي دروس اللغة العربية في مدارسنا، يوجَّه الاهتمام الأكبر لمادَّة النحو، وليس لدرس القراءة، على الرغم من أن النحو وهو مجرَّد وسيلة لتعميق فهم المقروء أو المسموع. لأن ” الذي يكوّن الملكة اللغوية هو الدربة والمرانة على القراءة السليمة الكثيرة والسماع الصحيح الكثير المتكرّر.  ولهذا لا نتوقع من كتب النحو أن تساعدنا على تكوين الملكة اللغوية…”، كما أكّد فقيدنا المرحوم الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف (1941 ــ 2015م) في كتابه ” في بناء الجملة العربية” (عبد اللطيف: 18ــ 19)، وكما كان يؤكِّد المرحوم الدكتور محمد كمال بشر (1921 ــ 2015م ) رحمه الله. فالحركات الإعرابية تساعدنا على توضيح المعنى، أما إذا اتضح المعنى بالقرائن المعنوية واللفظية، لم يعُد للحركة الإعرابية دور كبير، كما أوضح ذلك المرحوم تمام حسان (1918 ـ 2011م)  في كتابه ” العربية : معناها  ومبناها” (حسان:234 ).

ولهذا فإن جلال الدين السيوطي (849 ـ 911ه) يشير في كتابه ” همع الهوامع في جمع الجوامع” إلى أن علماء اللغة في عصور ازدهار اللغة العربية أباحوا رفع المفعول به ونصب الفاعل إذا كان المعنى واضحاً من القرائن الأخرى. وقال:

” وسُمع رفع المفعول به ونصب الفاعل، حكوا: خرق الثوبُ المسارَ، وكسرَ الزجاجُ الحجرَ… والمبيح لذلك كلِّه فهم المعنى، وعدم الإلباس…”

ويأتي السيوطي بشواهد شعرية عديدة على ذلك (السيوطي، ج 3 ص 8). وطبعاً هذا استثناء لا يُقاس عليه، ولكن لا يُعترض عليه إذا كان المعنى مفهوماً.

أما الانحطاطيون اليوم فما زالوا يتمسِّكون بتقاليد بالية مفادها أن النحو هو الأساس في اللغة وهو مدار درسها وإتقانها. وإذا سمع أحد الانحطاطيين جملةً فصيحة مفهومة ولم تجرِ على القواعد النحوية التي حفظها عن ظهر قلب، انتفض فرحاً كأنه عثر على ضالته المنشودة، وقاطع المتكلِّم دون اعتبارٍ لآداب الكلام أو آداب الاجتماع، من غير أن يدرك أن النحو مجرَّد وسيلة لفهم معنى التعبير، ويختلف من مدرسة نحوية إلى أخرى كمدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ومدرسة بغداد، وأن كثيراً من خروج التعبير المفهوم عن القواعد يمكن استساغته بالتأويل والتقدير، كما يسوِّغ مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعبير ” قال أن” الذي يعدّه الانحطاطيون خطأً جسيماً، على تقدير ” ذكر أن ” . فاللغة وسيلة للتفاهم والتواصل، وليست لإشهار القواعد النحوية في وجوه الآخرين بطريقة فجة.

وكان العلامة ابن خلدون (732 ـ 808 هـ/ 1332 ـ 1406م) قد سخر من هؤلاء النحويِّين الانحطاطيِّين في فصلٍ كامل من مقدِّمته الرائعة عنوانه ” الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم ، والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفةُ قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصةً، فهو علم بكيفيةٍ، لا نفسُ كيفيةٍ، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة مَن يعرف صناعةً من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً…” (ابن خلدون: ص 1081  ــ 1084).

فالعلامة ابن خلدون يدعو هنا الى الاستغناء عن درس النحو في التعليم، والاستعاضة عنه بقراءة نصوص النثر والشعر لاكتساب ملكة اللغة العربية، تحدُّثاً وكتابة.

ج ـ اعتبار الكتابة هي اللغة:

من بديهيات علم اللغة الذي طوّره العلماء العرب في عصور ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، أن الكتابة ليست هي اللغة. فاللغة كما عرّفها ابن جني (332 ــ 392 ه) في كتابه ” الخصائص” هي ” أصواتٌ يعبّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم..” (ابن جني، 1/34)، وما الكتابة إلا رسمٌ لتلك الأصوات. ومعروفٌ أن في الإمكان إبداع عدّة رسوم للشيء الواحد، ومن الطبيعي أن تختلف هذه الرسوم في جودتها وكمالها، طبقاً لمهارة الرسّام المتأتية من معارفه العلمية وقدراته الإبداعية. ويشكِّل رسمُ جميعِ أصواتِ لغةٍ ما نظاماً كتابياً لتلك اللغة يمكن تطويره وتبسيطه وتوحيده. وهذا ما تسعى إليه السياسات اللغوية الهادفة إلى تطوير اللغة.

وقد خضع النظام الكتابي للغة العربية إلى عدّة تعديلات وتحسينات وتبسيطات على مرّ العصور. ولكنه في عصر الانحطاط، أصيب بالجمود فبقي ناقصاً غير موحّد في قواعده. وقد أُضفيت عليه قدسية متوهَّمة، وصلت إلى إعطاء الحروف قوة سحرية لا تمتلكها في حقيقة الأمر، وقد تطرقتُ إلى ذلك في كتابي ” صناعة المعجم التاريخي للغة العربية”.(القاسمي، 2014:  133 ـ 161)

ونظراً لذلك الجمود الذي أصاب نظام الكتابة العربية الذي ورثناه من عصر الانحطاط، نجد اختلافات عديدة في كتابتنا اليوم طبقاً لنوعية النصِّ، أو للقطر الذي تتمُّ فيه الكتابة. فمثلاً كلمة (الرحمان) تُكتَب برسمها الكامل هذا في بلدان المغرب العربي، ولكنها تُكتَب (الرحمن) برسمها الناقص هذا الموروث من عصر الانحطاط في بلدان المشرق العربي. ومثل هذا التفاوت كثير في الكتابة العربية، حتى في الكتاب الواحد.

ولكن إذا دعا أحدهم إلى توحيد الكتابة العربية بحيث يكون الإملاء واحداً في جميع النصوص العربية على اختلاف مواضيعها وفي جميع الأقطار العربية على اختلاف مواقعها، انتفض انحطاطيٌّ صارخاً: ” لا يقول بهذا إلا كافرٌ أو مستشرقٌ”. ولم يبقَ لهذا الانحطاطي إلا أن يفتي بهدر دم الرجل وتطليق زوجته. وقد نسي هذا الانحطاطي ما حفظه من القرآن الكريم مثل: (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومَن لم يتُب فأولئك هم الظالمون) (سورة الحجرات: 11)، ونسي ما حفظه من الحديث النبوي الشريف مثل ” مَن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما” (ابن مالك : الموطأ، الحديث رقم 1844). والانحطاطيون يحفظون النصوص، ولكن لا يعملون بما يحفظون، كما ذكرنا.

ومعروف أن تيسير الكتابة وتوحيد قواعدها الإملائية هو من الإجراءات الشائعة في السياسات اللغوية الرامية إلى تنمية اللغة وتسهيل تعلُّمها وتسريع انتشارها.

الخلاصة:

وخلاصة القول: إن السياسات اللغوية لا تُستعمَل دائماً لتطوير لغةٍ ما وترقيتها، بل قد تُستخدَم أحياناً لتهميش لغة ما وتدميرها. ويرى الكاتب أن السياسات اللغوية المتَّبعة في البلدان العربية حالياً ترمي، عن قصد أو غير قصد، إلى تهميش اللغة العربية الفصيحة المشتركة وتدميرها، وذلك عن طريق تفضيل لغة المستعمِر القديم واعتمادها لغة عمل في التعليم العالي العلمي والتقني والمؤسسات المالية والاقتصادية والحياة العامة، وتغليب العامية الدارجة في وسائل الإعلام، والتعليم، واتباع ممارسات وإجراءات تثبّط عادة القراءة في المجتمع؛ إضافة إلى أن بعض الممارسات التعليمية الموروثة عن عصر الانحطاط  كإعطاء الأهمية لدرس النحو وعدم تيسير الكتابة العربية واستكمالها، تؤدي إلى وأد عادة القراءة والحدِّ من انتشار اللغة العربية بين الناطقين بها وغير الناطقين بها.

***

بقلم: الدكتور علي القاسمي

دراسة قُدِّمت في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في أبريل 2018

………………………………….

المصادر والمراجع:

ــ ابن جني.1952. الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار. بيروت: دار الكتاب العربي، عن نشرة دار الكتب المصرية.

ــ ابن خلدون. 1967. المقدمة. بيروت: دار الكتاب اللبناني.

ــ بجيوي، عبد الرحمن. 2011. تنمية اللغة ولغة التنمية في الوطن العربي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

ــ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 2016. تقرير التنمية البشرية: تنمية للجميع. نيويورك: الأمم المتحدة.

ــ الجابري. محمد عابد. 1980. نحن والتراث. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

ـ ــــــــــــــــــ. أبريل 2003. مواقف، العدد 14. الدار البيضاء: أديما.

ــ حسان، تمام. 1973 . اللغة العربية مبناها ومعناها. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ــ حسين، جاسم. 2017. ” بطالة الشباب في الوطن العربي” في موقع: بطالة ـ الشباب ـ في ــ الوطن ـ العربي /2017/09/03ـ

ــ السليمان، عبد الرحمن. 2018. “دعاوى الأصول الآرامية/السريانية للغة العربية والقرآن الكريم” في : المرجعيات اليهودية والمسيحية في ترجمات معاني القرآن الكريم. تنسيق: سعاد الكتبية وآخرون. عمان: عالم الكتب الحديث.1ـ 48.

ــ الشمري، عبيد عبد الله. 2011. ” التخطيط اللغوي من الاستعمار إلى العولمة اللغوية” في

Brahimblogspetcom.blog spot. Com/2011/07/blog.post_18html

ــ عبد اللطيف، محمد حماسة. 1982. في بناء الجملة العربية. الكويت: دار القلم.

ــ الفاسي الفهري، عبد القادر. 2013. السياسة اللغوية في البلاد العربية. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.

ــ القاسمي، علي. 2008. علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ . 2008. لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ. 2013. السياسة الثقافية في العالم العربي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ. 2014. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ القاضي، هاشم بن صالح. 2017. ” الاستعمار اللغوي” في:

Blogs.aljazeera.net.blogs/2017/03/11

ــ كوبر، روبرت. 2006. التخطيط اللغوي والتغيير الاجتماعي. ترجمة: خليفة أبو بكر الأسود. طرابلس: مجلس الثقافة العام.

ــ المسدي، عبد السلام. 2011. العرب والانتحار اللغوي. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.

ــ ويكيبيديا، الأمية في الوطن العربي

ــ يقطين، سعيد. 2018. جريدة المساء المغربية، العدد 3528، في 2/3/2018.

ــ اليونسكو. 2018. ” اليوم العالمي للغة الأم” في موقع:  اليوم ـ العالمي ـ للغة ـ الأم ـ التعدد ـ والتنمية ـ المستدامة 21/2/ 2018

–       Britannica.  https://www.britannica.com/biography/Esarhaddon.

–       Encyclopédie Universalis. Les naissances de l’ẻcriture.

–       L’histoire du français. thaloe.free.fr/français/histoire1.html

–       Loi Toubon,  https://fr.wikipedia.org/wiki/Loi_Toubon

–       Philipson, Robert. 1992. Linguistic Imperialism. Oxford University Press.

– “ Quelle politique pour le français et le plurilinguisme?”

Fr/culture/dglf/politique-langue.htm

‏مقالات ذات صلة

Back to top button