لحظة تفكير

د. م علي الخامري : بوارق أمل على صعيد إنشاد قصيدة الملحون بمدينة مراكش

مراكش كغيرها من حواضر الملحون بالمغرب، تعرف خصومات ومواقف سلبية بين أهل الملحون، تؤثر سلبا على الفن المذكور ومن جميع الجوانب ، ويبقى مجال الإنشاد من أكثر الميادين إحساسا بتلك المواقف السلبية ، لأن المنشد يحتاج إلى رعاية وتدريب وتجربة تصقل موهبته ، لا يمكن أن يصل إليها إذا لم تُمَد له أيادي الاحتضان والمواكبة الضرورية لتأهيله ، وإتاحة فرص التمرين والإرشاد أمامه بحب وتوجيه ورعاية إيجابية متواصلة. 

وضع الملحون في مراكش يختلف بمواقفه السلبية عما يوجد في بقية الحواضر الأخرى ، فهو يفتقر إلى الخلف ، ولاسيما في ميدان الإنشاد ، فالشيوخ الذين شادوا ، ومثلوا المدينة أحسن تمثيل منهم من توفاه الله تعالى ، ومنهم من حبسه المرض ومنعه عجز الكبر ، ولم تكن البرامج والتظاهرات الاحتفالية في الماضي  تنتبه للوضع حتى وقع الفأس في الرأس كما يقولون ، فالميدان كان ولا زال مليئا بالأحقاد الرخيصة ، والمتصدرون لأنشطته يبحثون عن التسيد والسيطرة والاستفادات من المغانم المتكررة والمغرية ، ومن أجل كل ذلك حرص المتنفذون على حماية مصالحهم ، وشيوع الفرقة ، وإقصاء المواهب الواعدة وما أكثرها في مدينتنا ،  فعنترية الشيخ الهمام ، وعنصريته  ، ورغبته في الاستحواذ على الطعام وفُتَاته جعلته صادا ومحاربا للمواهب الحقيقية ، ومقبلا على  بعض المدسوسين المساهمين معه في جرم الإبعاد والإقصاء ، ويتناسى مثل هؤلاء الشيوخ وضعيتهم بالأمس القريب ، يوم كانوا في أمس الحاجة للإعانة والتقويم ، ووجدوا من أخذ بيدهم ، وبذل لهم الخدمات المُعِينة ، ومَن شجعهم ، وأتاح أمامهم فرص التعلم والتدريب ، ولولاهم لما تسيدوا ، وأضحوا شيوخا للإنشاد .

مناسبة هذا الكلام  الحفل الذي نظمته جمعية : ( خربوش للصناع التقليديين والمحافظة على التراث ) عشية الجمعة 19 نونبر 2021م وما أثارني فيه هو حضور مجموعة من الأسماء في مجال الإنشاد ، وانصهار بعض جمعيات الملحون فيما بينها ، والأكثر المفيد هو الحرص على تمكين جميع الأسماء من فرصة الإنشاد ، بل قد شاهدنا براعم واعدة في الإنشاد كحالة الطفلة هبة لبيب التي أنشدت قصيدة : ( الأم ) لعبد المجيد وهبي السلواني كما يقول رحمه الله بحضور وأداء واعدين ومميزين .

وأثناء الحفل تحاورت مع بعض الإخوة ، وقلت لهم : أمانة الملحون بمراكش بين أيديكم ، وخصوصا في ميدان الإنشاد ، وبينت لهم أن كل حواضر الملحون بالمغرب فيها خصومات ويعتري عملها مواقف السلب ، ولكن وضعنا بمراكش خطير جدا ، وفيه مؤشرات على ضياع الملحون – لا قدر الله – فيما بيننا ، واختفاء صيغته وصبغته المراكشية المحببة ، فمجال الإنشاد يتعرض لعوامل الاندثار والانقراض بتأثير عوامل ذكرت بعضها فيما سبق ، ويبقى أمامنا أن نتهيأ جميعا للعمل وأن نتخلى عن شعارات الزعامة الزائفة ، ونتخلص من عبوديتنا لذواتنا ، ونتحلى بخصال البذل والعطاء  بفسح المجال أمام مَن له موهبة حقيقية في الإنشاد ، والحرص على مساعدته ورعايته حتى تكتمل تجربته ، وتُبنى ثقته بنفسه وفي نفسه ، والدعوة هنا وجهتها خصيصا لبعض الشيوخ الحاضرين للحفل مثل الشيخ درعان عمر والشيخ ماكامات عزيز .

وكم أسعدني قول الشيخ الأول ( عمر درعان ) حين سألته عن الخلف فقال : إنه شخصيا يرعى أزيد من عشرة براعم ذكورا وإناثا ، ويحاول أن يمكنهم من الصنعة المطلوبة ، وذكر لي مجموعة من المنشدين البارزين في الميدان مروا من طريقه ، وتعلموا على يديه ، ولولا ظروف الجائحة المعروفة لكانت النتيجة أفضل مما عليه الوضع الآن ، وبشرني بمناسبة فتح دور الشباب لأبوابها بالمزيد من الإقبال والاجتهاد  والتضحية في سبيل جلب الشباب وتحبيب فن الملحون لهم ، والسهر على تكوينهم تكوينا صحيحا ، فهمة التعليم ، ومهمة التكوين يجب أن تكون ضمن برامج كل الجمعيات والمنتديات التي تهتم بالملحون وبصفة أساسية وعمل متواصل ، وحصيلة ملموسة ، هكذا تواصلنا ، وهكذا حصل بيننا الشعور المشترك بجسامة المهمة وفوائدها وفضائلها وسلوكها المفقود حاليا في الكثير من الممارسات المصطنعة والصورية .
ومن باب توسيع الكلام ولوازمه مع الشيخ عمر درعان وقد عرفت شغفه وحرصه على خصلة التعليم والتكوين أخاطب كل غيور وعالم بطريقة الإنشاد ، وأدعوهم إلى أن يجتمعوا ويسطروا برنامجا مشتركا ، يهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه في البداية ، ثم بعد ذلك يتم الانطلاق بخطة مدروسة وواضحة ومتفق عليها في تحصيل الغايات المرصودة على المدى القصير والمتوسط والطويل ، ومن شأن السير على مثل هذا المنوال أن تحيا فينا شيمة التآزر من جديد ، ونتعلم قيمة وقيم العمل الجماعي المفيد ، ونقضي على ما علق بالقلوب من كره وحسد ومواقف السلب .

للتاريخ أشهد وأقول بأن الجمعيات الجديدة لها رغبة في الكشف عن المواهب الشابة ، ولها ميول إلى الانكباب على التربية والتكوين ، وخلق جيل جديد من أهل الملحون ، متشبع بالمعرفة اللازمة ، وضابط للقواعد الفنية المتحكمة ، وبالرغم من الجهود الضئيلة والمبذولة لحد الآن إلا أن نتائجها الطيبة تظهر ما بين الفينة والأخرى ، وتعزز المسار الصحيح الواجب ، وتُرَغِّب في الإقبال على التعلم والتدريب من أجل المحافظة على فن الملحون وقيمه الثابتة والأصيلة .

معلوماتي المتقدمة استقيتها من إحساسي ومشاهدتي لبعض النماذج ، ومحاورتي لبعض الأصدقاء ومن مختلف الجمعيات ، وكنت واضحا في موقفي ورؤيتي ، وأوجه الجميع بضرورة تحمل المسؤولية الضرورية في هذا الظرف السيء للأسف الشديد ، فالملحون لا ينبغي أن يُتخذ وسيلة للفرجة الاعتباطية ، ولا أن تتحكم فيه نوازع الذوات المريضة ، بغية تسويقه أمام الجمهور على أنه ملك خاص ، أو أن أهله عبثيون ومتناحرون فيما بينهم ، فما هكذا الأمر في حقيقته ، لأن الملحون هو فن وشعر وإنشاد راق ، يضم عصارة الأجداد والمحدثين ممن أفاء الله عليهم بموهبته ، وممن تشبعوا بثقافته الرحبة ومعرفته المغربية الأصيلة ، ولولاه لما عرفنا شيئا عن ماضينا مما احتوت عليه مواضيغ مثل العشق والمدح ، والوصف ، وشكوى الزمان ، وحِيل المجتمع ، وتفكير الإنسان المغربي المتطور ، وشغفه بالجمال ، وتشبعه بقيم الفن ، وبراعته في التأليف والخيال ،  وحرصه على الإبداع ، والإيمان بجدوى وجوده لدى كل الفئات المجتمعية………

أتمنى أن يُسمع كلامي ، ويشيع بين الإخوة في مختلف الجمعيات ، ويعتبروه فيما بينهم من أجل الإقلاع الضروري والمنشود في وقتنا الراهن ، والدعوة متجهة إلى الجمعيات الجديدة لِما عليها من الإقبال ومن الآمال ، ولِما تعرف من نشاط واجتهاد ورغبة في التغيير ، وحتى يكون لها تبرير الوجود والتمايز عند المقارنة بالجمعيات القديمة التي أسدت بدورها فضائل كثيرة لفن الملحون ، وفي مقدمتها المحافظة على تقليد الجُمَعِيات ، وعلى جمع ناسه وصيانة أنغامه ، واستمرار حلقات إنشاده في حضرة فئات عريضة من المجتمع داخل حواضره الكبرى… 

ولكن ومع ذلك يؤخذ عليها أنها جَمَّدت الوضع لعقود ، ولم تعد لها رغبة في صناعة الخلف ، وأضحت مُعرقِلة لكل جديد ، ومستمرة على نمط يغلب عليه التكرار والاجترار والإقصاء ، وتكوين محميات خاصة وقبيحة في حدائق الملحون الفيحاء لخدمة أغراض دنيئة ، ولتحقيق أهداف ضيقة ويائسة ، ولتحويل الفن المذكور إلى وسائل للاسترزاق وحصد المال والألقاب الزائفة……….

إذا استطاعت الجمعيات الجديدة أن تعالج الوضع القائم ، وتُقَوِّم الخلل المنتشر بين أهل الملحون ، وبدأت بالعمل على وتيرة الوضوح والتشارك ، وكانت لها غيرة حقيقية ، ورغبة ملحة في العمل الجاد ، وإشاعة مضامين الملحون بين الناس على مستوى الفكر والفن ، والأكثر من كل ذلك أن تحاول الجمع والملاءمة بين التيارات المختلفة ، والآراء المتناقضة من أجل الاستفادة من كل أصحاب الخبرة والمعرفة الملحونية……إذا استطاعت كل ذلك ، أو شيئا منه فستكون قد قامت بجزء يسير من وظيفتها ، وسيكتب لها كل ذلك في ميزان حسناتها ، وفي سجلاتها ورصيدها بمداد الفخر والاعتزاز ، وسيعترف الجميع بمجهوداتها ، وستُلمَس فوائدها في الوجود والإضافة والتأطير ، وستكون لجدتها شرعية كاملة على مستوى التاريخ والبصمة القائمة والمميزة من جهة الزمان ، والعمل المنجز ضمن كل الأعمال التي تتصل بجميع ما يخص الملحون وأهله .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button