‏آخر المستجداتلحظة تفكير

ذ حماد القباج: “سلوك التعري في الشواطئ ..”

أقف في هذه المقالة مع ظاهرة ارتياد الشواطئ للاستحمام والاستلقاء على الرمال، بالطريقة المتفلتة التي اعتاد عليها كثير من الناس في بلدنا وفي غيره؛ فأقول:

إن أول ما نلاحظه ونحن نتأمل في هذه العادة؛ أنها منافية لما وجه القرآن إليه بني الإنسان، في قول الله تعالى:

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 26-27).

قوله تعالى: {لباسا} أي: اللباس الضروري، وقوله سبحانه: {ريشا} أي: لباس الزينة الكمالي.

وقد نزلت هاتان الآيتان بسبب عادة شنيعة كانت بين العرب، شبيهة إلى حد كبير بهذه التي نتحدث عنها؛ وهي طوافهم بالبيت عراة، واعتقادهم الجازم بعدم قبح ذلك، بلِ استحسانُهم له:

قال صاحب النكت والعيون (ج1 / ص475):

“قوله عز وجل: {يَا بَنِيَ آدَمَ َقَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً..} نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة! وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان:

أحدهما: أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها!

والثاني: تفاؤلاً بالتعري من الذنوب!..”.

ولئن كانت هذه هي فلسفة المشركين القدامى في تعريهم؛ فإن لعراة الشواطئ فلسفة لا تمت للمأخذ التعبدي بصلة، بل تنبثق من فكر إباحي لا ديني، يتحلل من مفهوم العبودية لله رب العالمين، ويستبدله بمذهب “تملك الإنسان لجسده”؛ وأنه حر أن يفعل فيه وبه ما شاء.. ولا دخل لأحد في ذلك؛ ولو كان ربه الذي أوجده من عدم، وأمده بالنعم..!!

ولذلك يقولون -بلسان الحال ولسان المقال-: نحن أحرار في أبداننا نفعل بها ما شئنا! نستلقي بها مكشوفة على الرمال، ونسبح بها شبه عارية في المياه!

وكل من انتقدنا فهو مخطئ، إذ تَدَخل في حريتنا، وضيَّق دائرة تمتُّعِنا!!

وبهذه الفلسفة يُصادمون الفطرة، ويُجاهرون بالمعصية؛ مفتونين بتزيين الشيطان، ويخلون بالآداب والأخلاق العامة للمجتمع الإسلامي؛ منتهكين حرمات الناس ومفسدين لأذواقهم بنزع اللباس الفطري في أماكن عمومية ..

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير(ج 5 / ص 264)، في معرض تفسيره للنص القرآني المتقدم:

“وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة …فخالفوا الفطرة”.

وقال في (ج5 / ص266):

“والنّداء بعنوان بني آدم: .. لزيادة التّنويه بمنّة اللّباس، وفيه توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة.

وقد نُهُوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفُتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي: لا تُمكِّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب: لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا: أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك.. فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم”.

قال:

وجملة: {ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} استئنافٌ ثانٍ، على قراءة: {ولباسَ التقوى} بالنّصب، بأنِ استأنف بعدَ الامتنان بأصناف اللبّاس؛ استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة: الأوّل: بأنّ اللّباس خير للنّاس، والثّاني: بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه، وتدلّ على وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً، فلذلك أكّد الوصاية به”.

قلت: وفيها آية أخرى؛ وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأنه ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال؛ فيستلقون على رمال الشواطئ عُراةً.

وكيف لا تكون هذه العادة ضلالا، وفيها مجاهرة بالعصيان، ومخالفة صريحة للنصوص التي نهت عن التبرج والعريّ، وأمرت بستر العورات، والالتزام بالحجاب الشرعيّ:

وفي التنزيل العزيز: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب33).

وقال سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن} (النور31َّ).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب59).

عن معاوية بن حيدة أن النبي صلى اله عليه وسلم قال له: “احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك“.

قال: قلت: “فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟”

قال: “إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها

قلت: “يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليا؟”.

قال: “فالله أحق أن يستحيى منه“. (رواه الترمذي).

وعورة الرجل من السرة إلى الركبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإن ما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته“. (رواه أحمد).

‏وأما عورة المرأة فيبينها الحديث التالي:

عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشابة إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل» (رواه البيهقي).

فكيف يفعل أو يُسوغُ مؤمنٌ أمرا يصطدم مع هذه النصوص القرآنية والنبوية؟!

وقد أجمع علماء المسلمين على تحريم تبرج النساء، فضلا عن تعريهن، وأجمعوا على وجوب الحجاب؛

ومن أقوال علماء المذهب المالكي في هذا الصدد:

قول الشيخ الدردير رحمه الله: “عورة الحرة مع رجل أجنبي منها، أي ليس بمحرم لها، جميع البدن غير الوجه والكفين”. (الشرح الصغير: 1/289).

وقال الشيخ الزرقاني رحمه الله: “عورة الحرة مع رجل أجنبي مسلم غير الوجه والكفين من جميع جسدها”. (شرح الزرقاني على مختصر خليل: 1/176).

فتلك نصوص الوحي، وهذه أقوال العلماء، فهل من مدّكر؟!

..وبعدُ، فإن المفاسد السلوكية والصحية والاجتماعية لهذه العادة بيِّنة جلية، وإن اجتهد (منظرو فلسفة التعري) و(سدنة الفكر الإباحي) في إخفائها والتهوين من شأنها:

فإنها تنشر في المجتمع الرذيلة والفاحشة، ونحن نعلم ما يترتب على هذا الانتشار من الأدواء الصحية، والمشاكل الاجتماعية، وما يؤدي إليه من انتهاك الأعراض، واختلاط الأنساب، وموت الغيرة والشرف، وتفكك الأسر، وضياع الأولاد ..

ومن الناحية الصحية وسلامة الجسم؛ أفاد متخصصون في الأمراض الجلدية؛ بأن أشعة الشمس تتألف من أشعة (UVA) التي تُسبّب سرطاناً للجلد على المدى الطويل، وأشعة(UVB) التي تعطي اللون الزهري للجلد.

وأشارت أبحاث إلى أن السيدة التي تتعرض لأشعة الشمس كثيراً؛ تصبح جلدة وجهها مجعدة وتظهر أكبر من عمرها، ومن هنا أوصوا باستعمال مرهم خاص (ecran total)، يقلل من نسبة الإصابة بتلك الأضرار!

وأكد هؤلاء المختصون على أن اصطحاب الأطفال إلى هذه الشواطئ بشكل غير مقنن؛ يمثلل خطرا عليهم، وأن الضرر عليهم أكبر؛ لأن بشرتهم حساسة ويبقى تخزين أشعة الشمس في الجلد عندهم وقتاً طويلاً…

إن بلدنا يزخر بشواطئ رائعة .. وإن الاستمتاع بها لنعمة ماتعة .. فليكن ذلك في إطار الأخلاق العامة والضوابط الشرعية .. ولو أن الدولة نظمت هذا الأمر، وسمحت به لإبداعات الناس والمجتمع المدني؛ لكان شكرا لله تقر به النعمة، وتندفع به النقمة .. نقمة الأمراض والغلاء والكوارث الطبيعية ..فاللهم غفرا .

وفي كل الأحوال فإن طاعة الله عز وجل وتطلب مرضاته فيها من العوض النفسي والمادي والأخروي؛ ما لا ينبغي لعاقل تركه من أجل متعة سباحة غارقة في أوحال المعصية..

‏مقالات ذات صلة

Back to top button