فنون وثقافةلحظة تفكير

فريدة بوفتاس: ٱمرأة من عطر

صديقتي الستينية ، لا يمكنك أن تلاقيها ، إلا وتقابلك بابتسامتها العذبة ، ووجهها البشوش، وهي تتحدث إليك يفتر ثغرها عن ابتسامة تمر كنسمة ندية في صيف قائظ، يبدو من ملامحها أنها كانت ذات جمال ، ويبدو عليها من زيها أنها ذات ذوق رفيع ، هكذا عهدتها .

تعرفت عليها في سنوات خلت، ولم نلتق منذ مدة ، ألانها كانت تقطن ببلاد المهجر . سعدنا معا بلقائنا معا ، مما دفعنا إلى أن نمد زمنه بنفس أطول ، في جلسة حميمية بإحدى المقاهي المطلة على البحر ، نستعيد معا ذكرياتنا ، ونجدد صلتنا الودية التي لم تنقطع رغم طول غياب .

ٱخدتها على عدم سؤالها عني بعد أن كنت قد بعثت لها برسالة، أخبرها فيها بأحوالي ، لأننا تعودنا نحن الاثنثين أن نشارك بعضنا بوحنا ، ونتقاسم أحلامنا الوردية البعيدة ، وهمومنا المكدرة ، التي كان تعاطفنا المتبادل يكسر حدتها ، ويجعلنا نستعيد إرادة الحياة .

اعتذرت لي بشدة عن سوء ما بدر منها ، وقامت من مقعدها ، لتأخدني في حضنها تقبل رأسي وتطلب مني أن أغفر لها أبعدتها بلطف عني وأنا أضحك:

_ مابك تقبلين رأسي ، وكأنني أرى جدتي وهي تقبل رأس صديقاتها،

إذكانت تلك طريقة للتحية لديهن جميعا .

ضحكنا معا وأجابتني :

جميل أن أذكرك بها ،أوانت من كنت تعزينها ، نعم صديقتي ، سأعيد تقبيل رأسك و جنتيك ، حتى أطلب عفوك ، أنا مخطئة في حقك ، وأشعر بالذنب مما اقترفته .

أنا لا أنكر أنني توصلت برسالتك ، وقرأتها ، لكنني وضعتها فوق مكتبي ، كي أرد عليك .

_ لم ، لم تردي إذن ؟

أطرقت في صمت ، وانهمرت دموعها بلا استئذان ، حتى أحسست

انني أنا المذنبة في حقها ،لقد قلبت لهيب مواجعها التي لم تكن بعد قد انطفات . لم أجد الكلمات المناسبة لكي أكفكف دمعها ،ألانني كنت في حالة ذهول شديد ، حتى اإني تمنيت لو لم نلتق أبدا .

شعرت هي بما خلفه بكاؤها لدي من أسى وحزن ، أمسكت بيدي ، وشخصت إلي بعينيها الجميلتين الكحليتين ، وقالت لي : لا عليك عزيزتي ، أعرف أنك لم تقصدي إيلامي ، و إيقاظ ما كان يسكن بداخلي من أحزان ، لا عليك ، لا تفكري في الأمر .

لم يصدر عني أي تعليق أو رد فعل ، كنت واجمة أمامها ،أنتظر ما تحبل به من تفسير لما حدث.

استمرت هي في مسح دموعها المنسابة ، وفجأة سألتني :

ـ هل سبق لك أن فقدت عزيزا ؟

نظرت إليها في تعجب ، لكنني غادرته لأجيبها بالايجاب ، بتحريك رأسي علامة على تأكيد ذلك .

ـ أنا الأخرى فقدت عزيزا غاليا

_ ومن يكون صديقتي ؟

زوجي الذي استكنت إليه بعد طول عذاب ، والذي كان هدية لي من القدر ، بعد ما عشته من قبل من جحيم ، لقد كان أليفي وسبب وجودي ، ومصدر سعادتي……. وكان لي صفيا ، حليما ، خلوقا ، وكم كان يحبني !

كان ملاذا لي ، وصدرا حنونا يسع كل مخاوفي وهذيناتي .

ـ أنت تعلمين صديقتي أنني عشت فيما مضى أقسى أيامي وأتعسها ، أنا التي لم أنعم بحنان والدي منذ صغري ، لأن أبي قرر أن تقوم عمتي برعايتي، لأنها لاتنجب أطفالا ، وطبعا ، كنت أنا كبش الفداء ، وياليث الأمر استقر عند هذا الحد، بل إن عمتي وزوجها لم يحسنا معاملتي ، حتى أنهما لم يشعراني يوما أنهما يحملاني في قلبهما ، وتأكد لدي هذا الشعور خصوصا بعد ان ظهر في حياتهم السيد ( س) الذي دبرا زواجي منه وأنا بنت الخامسة عشرة من عمري ، فكنت طعما له ولثروثه التي كانت موضوع طمعهما .

وحين شكوت أمري لابي ، نصحني بالزواج منه ،ألانه يظل في الأخير أحسن بكثير ، وأرحم من عمتي المنفرة .

زواج عانيت فيه الأمرين مع زوج يكبرني بثلاثين سنة ، أثمر طفلين كانا هما مستقري في ضياعي اللامتناهي . لكنه زواج لم يعمر طويلا ، لأنه طلقني ، فقد كان مزواجا لا يفتر عن البحث الدائم عن النساء ، يغريهن بثروثه أو ربما كن مثلي ضحايا شجع أولياء الأمور .

ولأنني أم لطفلين ، كان علي إعالتهما ، مما دفعني للبحث عن عمل يساعدني علىى سد حاجات ولداي , كنت أملك منزلا بسيطا ورثناه عن والدهما ، لكن ، لم يكن ذلك كافيا ، الشغل سيحميني من عاديات الزمان .

أنت تعرفين أنني لا أقرأ ولا أكتب ، حرمت من الدراسة ، لذلك كان عملي لا يتجاوز حدود مساعدة في البيت ، أو معمل ..

توجهت إلى أحد أقربائي الذي كان لطيفا معي ، فكان عونا لي على إيجاد عمل في أحد فنادق المدينة . كنت ساعتها شابة ، جميلة ، مما جعلني لا أغيب عن عيون كثيرة لاحقتني ، لكن ، زوجي الثاني ، والذي كان إطارا في إحدى الوزارات ظل يصر على التعرف علي ، معلنا أن قصده شريف ، ويرغب في الزواج بي ، لم أمانع مادام سيكون أبا لأبنائي، وسيعاملهم بالمعروف .

لكن ، الأيام أبانت عن طيشه و اعوجاج سلوكه ، والأدهى من كل هذا ، العنف الذي كان يمارسه علي أمام اأظار طفلي ، لقد كان وحشا في هيأة ٱدمية .

خلصتني منه الأقدار ، إذ باغتته سكتة قلبية توفي على إثرها ، ولقد ترك وجوده في حياتي أسوء أثر . إلى أن تقدم أخ زوج أختي الذي كان يحبني مدة تزيد عن خمسة عشرة سنة ، لم يكن يجرء أن يفاتحني في الأمر ، جميع أفراد العائلة كانوا على علم بشعوره الطيب نحوي ،لكنهم لم يجرؤوا على إخباري ،انا التي خرجت من تجربة زواج فاشل ،
وعلاقة لم تكن مبنية على عواطف نبيلة .

كان أطفالي ساعتها قد بلغوا سن الرشد ، طلبت منه أن يكلم ولي أمري ، أقصد أبي ، وكذلك أبنائي ، الذين رحبوا بالفكرة ، خصوصا وأنه وعدهم بمساعدتهم على الهجرة إلى البلد الأوروبي الذي يقطنه مدة تزيد عن ثلاثين سنة .

كذلك فعل ، إذ التزم بوعده ، وكان لهم بمنزلة الأب الحنون .

كان يمازحهم قائلا :

ـ أنتم أبناء زوجتي التي أحببتها طيلة سنوات ، ولم أستطع أن أحب غيرها ، فكيف لي أن لا أحبكم وهي التي تهواكم.

كان القدر هذه المرة منصفا لنا جميعا لمدة عشر سنوات ، إلى أن قضى بموته ، وبغيابه عنا إلى الأبد ..

ـ هل تعلمين عزيزتي ،، لم أنا حزينة كل هذا الحزن ؟

أتعلمين أنه كان لا يغمض له جفن إلا إذا اطمأن على أنني سعيدة ، وأن يومي كان أجمل من أمسي .

كان يحسن الحديث إلي ، يأخد بمجامع لبي وقلبي ، كان حبا ثمينا صادفته متأخرة ، ولم أشعر معه إلا بالفرح العارم الذي

كان أبنائي يلحظونه ويتهامسون فيما بينهم بخبث بريئ .

ذاك كان زوجي وحبي الذي حرمت منه ، والذي لن أقوى على نسيانه ماحييت .

انتهت من حكيها الحزين، ابتسمت لي وهي تقول :

ـ لا تقلقي علي ، فأنا كما يقول المثل المغربي ( راس المحاين ) ،تعودت أن أسقط ، لكنني كالفينق ، أعود لأحيا ، ولو أنني سأظل أشتاق إليه إلى أن ألحق به .

قد نلتقي هناك مرة أخرى ، لكنني أتوجس خيفة إن لم يحدث لي معه ذاك اللقاء ، سأحزن .

ضحكنا معا ، وأنا أسائلها : كيف لك عزيزتي أن تحزني وأنت قد صرت ساعتها في عداد الأموات …؟!!.

*غشت 2023

‏مقالات ذات صلة

Back to top button