فنون وثقافةلحظة تفكير

عبد الله العلوي: ظـاهرة اختـيــار المـوت بـيـن المنـتـحر والانـتـحــاري

عرف الانتحار باعتباره قرارا فرديا، يتخذه الشخص للتخلي عن الحياة، منذ أزمنة طويلة. حتى إن الانتحار، قد يكون هو الجرم الثاني، أو الثالث، الذي عرفته البشرية، بعد القتل والاغتيال، ورغم أن من الصعوبة متابعة تاريخ بداية الانتحار، فهناك قصص قديمة ذكرها التاريخ، لحوادث انتحار شهيرة، نذكر منها انتحار سقراط 469-389 ق م، الذي قيل انه أرغم على الانتحار، بسبب حكم صدر ضده، لكون أفكاره تفسد الناس، ثم قصة انتحار كليوباترا  69-30 ق م، بتسليم يدها للدغة أفعى، بعد هزيمة عسكرية أمام الرومان ، وقد عرف أيضا الانتحار الجماعي في الحروب قديما بعد الهزيمة في المعارك التي خاضها قوبلاي خان 1215-1294 القائد المغولي الذي صار إمبراطورا للصين  1271-1294*، فقد حاصرت قواته عدة مدن انتحر سكانها ومنها مدينة تاتزوت  (=حاليا تشانغا)، فعندما دخل جيش كوبلاي خان وجد أن المدينة انتحرت بكاملها كان عدد الذين انتحروا 100 ألف نسمة.

وكان ماها فيرا 549-477 ق م، هو أول من نظر للانتحار جوعا، باعتباره تطهيرا للذات، واستغله غاندي 1869-1948 كمبدأ سياسي لتوحيد الهنود لمحاربة الاستعمار البريطاني.

وقد يكون الانتحار بشكل عام نتيجة مرض عضال عز شفاؤه، أو فشل في الحصول على حياة أفضل، أو فشل في النجاح، في أحد شؤون الحياة، أو الحصول على مزية ما ولا تنتهي صور اتخاذ قرار التخلي عن الحياة من طرف المنتحر والانتحار عملية فورية ينجزها المنتحر فورا وفي لحظة اختيار دقيقة وقد تبين أن العدد الأضخم من الذين يفشلون في الانتحار لا يعيدون الكرة.

انتحار بوعزيزي تونس

وقد يكون الانتحار لأسباب سياسية، فقد انتحر بعض البوذيين بإشعال النار في أجسادهم. احتجاجا على حرب الڨيتنام، أو غيرها، كما رأينا الهندوس في التسعينيات، ينتحرون بنفس الطريقة احتجاجا على تقرير ماندال في الهند، الذي منح وظائف لبعض الفئات الاجتماعية. ورأينا انتحار البوعزيزي في تونس، الذي كان الشرارة للاحتجاجات في تونس وفي العالم العربي، رغم أن انتحاره كان يأسا وليس بهدف سياسي.

وقد تزايدت ظاهرة التخلي عن الحياة مع تعقيدات الحياة المعاصرة، وضعف الوازع الديني، والضغوط الاجتماعية في المدن الضخمة، وانتشار الكآبة، وتعرف السويد، واليابان، الانتحار بشكل متصاعد، رغم الرفاهية الاجتماعية، والمالية، وتقدم البلدين. واليابان بشكل خاص عرفت ظاهرة التخلي عن الحياة، منذ القدم، واتخذت طابعا فروسيا. ولازالت تمارس في البلاد حتى الآن أحيانا وهي طريقة «الهاراكيري» وهي طريقة للانتحار عن طريق قيام المنتحر ببقر بطنه بسيفه وتدوير هذا السيف بشكل خاص حتى يكون قد قام بالانتحار بشكل فروسي.

طريقة «الهاراكيري»

والانتحار الاختياري له نتائج وخيمة على أسرة المنتحر ومحيطه الاجتماعي الصغير بالإضافة إلى تأثيره الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.

ويعرف الانتحار انتشارا متصاعدا، فقد أصبح في كثير من البلدان، السبب الأول للتخلي عن الحياة قسرا، و هو يأتي بعد القتل والاغتيال خصوصا في آسيا وأوروبا. وقد تصاعدت في المغرب-مثلا- ظاهرة الانتحار التي كانت قبل 30 سنة تعد على أصابع اليد. فأصبح الآن عدد المنتحرين بالمئات كل سنة. رغم أن السلطات تتكتم عن الإحصاءات في الموضوع، ومن خلال الأخبار اليومية، فان الانتحار أصبح شائعا، بين الرجال والنساء وحتى الأطفال أحيانا، وهو ما نتج عن التأثير العالمي والإعلامي، على المحيط العائلي والاجتماعي المغربي.

يبقى الانتحار هو التخلي عن الحياة بقرار فردي وله أضرار وأثار نسبية لا تتجاوز المحيط العائلي للمنتحر باستثناء حالة الانتحار السياسي و له بدوره نتائج أو أضرار محدودة.

الانــــتـحـــاري:

لا يعرف تاريخيا بداية ظاهرة الانتحاري، أي الذي لا ينتحر ويتخلى عن حياته فقط، بل يأخذ معه حياة الآخرين. وقبل معرفة الأسباب السياسية والتاريخية لظهور وشيوع الانتحاري، لا بأس من البحث تاريخيا عن الظاهرة، في التاريخ الإنساني، ذلك أن العالم عرف ظاهرة الاغتيال السياسي، حيث يعرف القاتل أنه لن ينجو من العملية بحياته. مثل ظاهرة الاغتيال التي عرفت في تاريخ “الحشاشين” في القرون الوسطى في منطقة الشرق الأوسط و إيران، إلا أنها تبقى عملية اغتيال، رغم طبيعتها الانتحارية، لكونها مجرد مغامرة قد ينجو منها الانتحاري، أو المغتال.

و يمكن اعتبار “الكاميكاز” الياباني أول ظهور مدمر جماعي لعملية الانتحاري الذي نقصده ففي الحروب التي خاضتها اليابان من أجل مشاركة الدول الامبريالية في الاستيلاء على خيرات البلدان عن طريق الاستعمار انتشرت عقيدة عسكرية وطنية، تجيز الانتحار من أجل إلحاق اكبر خسارة بالعدو، وهو ما يعرف بالكاميكاز. عندما كان الطيار ينزل بطائرته الحربية، على باخرة، أو قاعدة عسكرية، أو مدنية. ملحقا أكبر الأضرار بعدوه، مقابل حياته فقط، مما يكون معه المقابل ايجابيا من الناحية النفسية والمادية. فحياة واحدة مقابل عشرات، آو مئات الحيوات أو ضياع آلية: سيارة أو طائرة مقابل خسارة العشرات والمئات يصب في نجاح “الكاميكاز” في إصابة العدو في مقتل، مقابل اقل الخسائر، و “الكاميكاز” الياباني هو قرار الدولة، فهو ليس مسألة اختيارية فردية، بل عملية تكوين وتحريض، وتهيء الجندي / الطيار للقيام بالعملية عن طريق مؤسسة الدولة، المتمثلة في الجيش و التي كانت تهيئ جنودها فكريا وتطبيقيا وتهيئ الطيار للقيام بالمهمة.

كاميكاز ياباني

و “الكاميكاز” الياباني يعود إلى قرون عديدة في الثقافة اليابانية، وهو ناتج عن محاولة توازن القوى. فكون العدو أكثر قوة، لا يمكن مقاتلته فقط بالطرق العادية، بل يلجأ إلى الكاميكاز، ويظهر أن اليابانيين نقلوه عن كوريا المجاورة لهم والتي عانت من حروب عديدة شنتها اليابان ضدها – لاستعمارها واستغلالها- والتجأ الكوريون في إحدى الحروب التي يشير إليها “وول ديورانت” في كتابه تاريخ الحضارة إلى اختراع  “غواصات” انتحارية، تغوص تحت الماء. وتخرج من الجانب الأخر، لمهاجمة الجيش الياباني من الخلف بطريقة انتحارية.

وفي الشرق العربي بدأت ظاهرة الانتحاري الذي يأخذ معه حياة الآخرين، مع ظهور ما يسمى “بالحشاشين” وهم جماعة من أتباع الفكر الإسماعيلي وهي فرقة شيعية، انشقت عن الشيعة الإثنا عشرية، وكان حسن الصباح  في قلعته “ألموت“، التي دمرها هولاكو في 1256. أول من هيأ فكريا وذهنيا شباب الحركة الإسماعيلية، للقيام باغتيال أعدائه، بعد شحن الانتحاري وتهيئيه نفسيا وعقائديا، للقيام بالمهمة. فقد اعتقد البعض ومنهم “ماركوبولو” أن الانتحاري كان يتناول المخدرات قبل القيام بمهمة الاغتيال.

إلا أن الأمر ليس صحيحا فالانتحاري، هو عقائدي يهيأ فكريا وذهنيا، في حاضنة فكرية/ سياسية، أو دينية، للقيام بالمهمة. ولقب الحشاشين أطلق عليهم من طرف خصومهم وصدقه بعض الذين لا يستوعبون، جرأة الانتحاري وخلفياتها السياسية، والمذهبية والاجتماعية.

وقد تطورت فكرة الانتحاري مع تطور القوى التدميرية فمن الخنجر، إلى النفط، إلى القنبلة، إلى الحزام الناسف، إلى السيارات، إلى الطائرات. وتطورت مع توازن القوى الذي صار مختلا في جانب والخلاف الاجتماعي والسياسي والاستعمار وسيطرة القوى الكبرى على مقاليد الحياة والمجتمع. مما هيأ حاضنة فكرية لها مراجعها ومنطقها الخاص. وكان “التتويج” الأضخم حتى الآن لتطور الانتحاري الذي يأخذ معه حياة الآخرين، عملية 11-9-2001 وتدمير برج التجارة العالمي، في نيويورك، ونتائجه التي فقد على إثرها ملايين الناس أرواحهم. وما واكبها من هزات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية واحتلال عسكري أمريكي مباشر لمنطقة الشرق العربي، لم تنته نتائجه التدميرية حتى الآن. دون الإشارة إلى العمليات الانتحارية للسفارات، و المعابد، والمؤسسات، والثكنات، والملاهي من الأرجنتين حتى أفغانستان.

مهمة حربية للانتحاري

إن ظاهرة التخلي عن الحياة أو اختيار الموت بصيغتيها المنتحر أو الانتحاري عرفت انتشارا وظهورا في مختلف أنحاء العالم. مع اختلاف واضح بين الدول. فإذا كان الانتحار منتشرا في العالم الغربي واليابان والهند والصين.فإن الانتحاري يعرف تواجدا في العالم العربي والإسلامي، و يندر وجود بلد عربي لم يتعرض لعملية الانتحاري الذي يأخذ معه حياة الآخرين. و في هذا الاختلاف بين مناطق العالم، يتضح أن المسألة السياسية، هي المنتج والحاضن لظاهرة الانتحاري. في حين أن تعقيدات الحياة الرأسمالية هي الحاضن والمنتج لظاهرة المنتحر ودراسة الظاهرتين تحتاج إلى مجهود فكري وديني وسياسي عام لتوضيح هذه الظاهرة أو الظاهرتين ومحاولة تجاوزهما وهو أمر يتعلق بالظروف التاريخية والاجتماعية والفكرية والدينية بالأساس التي يمر منها مجتمع ما.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button