The magazineفنون وثقافة

قراءتان في كتاب “سارليكسيا.. بوح شفيف” للكاتبة فوزية رفيق

1 ـ أذة عائشة العلوي لمراني ـ


تقديم
الكاتبة المبدعة الشاعرة، الفاعلة الجمعوية، والباحثة البيداغوجية من مدخل العلاقة المواكبة للتلميذ والتلميذة، فوزية رفيق تجمعني بها قرابة عبرت عنها العزيزة زهور العلوي ألف رحمة ونور على روحها، بقرابة القيم لذا وأنا بصدد البحث عن مداخل لمقاربة كتاب “سارليكسا بوح شفيف” تعرفت على مسار مشترك، الرسالة التربوية و لا أسميها مهنة فهي رسالة ومهمة، والعمل الجمعوي في إطار الدفاع عن حقوق المرأة، إلى أن التقينا في لقاءات متوالية في الصالون الأدبي الربوة منذ أكثر من عقد من الزمان، فتعززت العلاقة وتعمقت.
أثار دهشتي والدهشة أم المعرفة كما قيل عنوان الكتاب وأحالني جزئيا على ما يعرف بصعوبة القراءة عند الأطفال(الديسليكسيا ) غير أن الصيغة هنا مختلفة وتشبه إلى حد كبير غرائبية الأسماء والعناوين الأسطورية. غير أن احتفاء الباحثين والمشتغلين بقضايا التربية والتعليم وما حظي به من اهتمام كبير، فقد عقدت حوله ندوات وقدمت له قراءات، كل ذلك هداني إلى موضوع الكتاب فكان مدخلا للاستئناس وعتبة للاكتشاف، والإقبال على القراءة بشغف، فالهم التربوي يسكننا مهما ابتعدنا أو ادعينا التقاعد.

مقدمة :
النور / حين يغيب
لا أكون
( مقطع شعري للكاتبة)
والنور يطل علينا من سماء الغلاف يرسل شعاعه على مساحة من الأرض الخضراء ويتوسطه ذلك الاسم المنحوت ” سارليكسيا” ويبقى السؤال هل هو قادم من الأسطورة ـ كما اشرت ـ قد تكون ملحمة وقد يكون اسما قادما من ميثولوجيا شعب من شعوب الأرض ، تلاه عنوان آخر ” بوح شفيف” ارتبط البوح بالكشف عن سر مكنون، أما شفيف فمشتقة من الفعل شف وهي أيضا مرتبطة بالكشف. وللبوح أشكال ومستويات مختلفة ظاهرها اللغة وأخرى تكشف عنها الملاحظة: النظرة،الإشارة، الإيماءة، الحركة وانعكاس الإحساس على ملامح الوجه ( الابتسامة ، العبوس ..) وقد ظهرت علوم حديثة تعنى بذلك غير أن الملاحظة الكاشفة قديمة وفي التراث نجد مثلا جملة (اقتفاء الأثر)
نقترب أكثر من عالم الكتاب عندما نقرأ أن التقديم هو للأستاذ محمد الدريج، الباحث في المجال التعليمي/ التعلمي والمحلل لتوجهات الإصلاح التربوي متتبعا مسار المنظومة التربوية خلال ما يقرب من نصف قرن .
للكتاب مقدمات وكلها عتبات تلج بنا إلى عالمه الشاسع، وتقربنا من تيماته،
الإهداء
يتضمن إشارات واضحة إلى تيمة المؤسسة التعليمة ، من خلال القاموس ( ثانوية ـ زملاء ـ زميلات ـ تلميذات ـ تلاميذ ـ مركز ـ استماع ـ وساطة مدرسية )
الشكر والتقدير
قاموس آخر يوضح علاقة الكتاب بالتربية والتعليم، ومقدمة أخرى تعبد الطريق نحو الكتاب، وتضعه في مقام الاستحقاق للاحتفاء مادام قد حظي بتقدير مفكر تربوي كبير هو الأستاذ محمد الدريج.
تقديم الدكتور محمد الدريج
التقديم الذي تفضل به الدكتور محمد الدريج، إضاءات حول كتاب لا يندرج في ما تعودت البحوث التربوية تناوله، إذ يتجه نحو نقد المنظومة التربوية وإبراز مواطن الخلل، ولا يقوم بتقييم المناهج والبرامج بل يسلك طريقا آخر مثل النهر العاصي الذي لا يصب في البحر بل يختار له مسارا آخر يعود به إلى النبع، والنبع هنا هو علاقة التلميذ بالمؤسسة التعليمة بعيدا عن الإجراءات الإدارية والتقاليد والعادات المتوارثة في إطار هذه العلاقة، فالتلميذ والتلميذة بصفة خاصة في الكتاب ليسا إناء نملأه بالمعلومات ونطلب منه رد البضاعة إلينا في الفروض والامتحانات، إنه حالة إنسانية ساهمت شروط اجتماعية ونفسية وحتى جينية معينة في تكوينها، والمدرسة بشكلها التقليدي لا تراعي هذه الشروط.
سارليكسيا:
أقف عندما يسمى بالحرم المدرسي حيث يصبح سور المدرسة حاجزا بينها وما يحدث في محيطها، وقد كان ذلك ممكنا في التعليم التقليدي الذي ينقطع فيه التلميذ للدراسة ويقيم في الحرم المدرسي والمدارس التقليدية كانت تبنى على هذا الأساس وتستقبل في الغالب نخبا لها مواصفات اجتماعية معينة ، ولم يعد ذلك ممكنا بعد تغيير الرؤية للعملية التعليمية ، ودمقرطة التعليم، وحين أصبح الحق في التعليم مضمونا بالقانون والاتفاقيات الدولية فتطلب تعميمه بناء المدارس بمواصفات مختلفة. هذا التغيير جعل التلميذ(ة) يعيش انفصاما بين ما تتطلبه المؤسسة التعليمية من انضباط واجتهاد ولياقة ذهنية وبدنية، وبين واقع اجتماعي تغيب فيه الظروف الملائمة الاقتصادية وحتى الصحية، فإذا لم تراعي المؤسسة ذلك تعمقت الجروح وقويت الأعطاب، وما نلاحظه من انحراف، وهدر مدرسي وإن كان للظروف الاجتماعية الدور الأكبر في ذلك، فإن المدرسة إن لم تبادر إلى الدعم في حينه، وأهملت الحالة فقد تكون مسؤولة مثلما يسأل كل شخص كان حاضرا ولم يقدم المساعد لمن هو في حاجة إليها. ومن هنا كان لمراكز الاستماع دور أساسي في دعم التلميذ في عمر مدرسي يمتد عدة سنوات .
وكما أشار الأستاذ الدريج فالكتاب لم يعتمد استحضار النظريات التربوية ولم يعتمد أسلوب البيانات والشعارات، بل اختار السرد الإبداعي والتخييل فحقق بذلك الوصول إلى التعبير عن البوح الشفيف.

الطريق نحو البوح الشفيف:
الطريق نحو البوح الشفيف طرق متعددة، الأولى قادت الكاتبة إلى أبواب مستشفى الرازي، وهو مستشفى يندرج في قائمة المستشفيات التي شيدت لمعالجة الأمراض النفسية والعقلية، هذه الأمراض الطابو المحاطة بنوع من التكتم والتستر، حتى أنها تنسب إلى عالم الجن ( جنون) فهي مس يصيب الإنسان من كائن يقيم معنا ولكننا وبقدرة إلهية لا نراه، وقد نسج المخيال الشعبي حوله الخرافات والحكايات والقصص التي تحكى خاصة للأطفال ، وبجرأة فريدة من الطفلة فوزية ( الكاتبة مستقبلا) وبعض رفيقاتها، اخترقن جدار الخوف واستمعن لهذه الحالات القصوى المنفصلة عن العالم ( العاقل)، فكان ذلك أول مركز للاستماع غير النظامي، قوى في الكاتبة الرغبة في التعمق في النفس الإنسانية، وكشف ملابسات هذا العالم المحاط بالغموض واللبس.
الطريق الثانية بدأ باستيعاب مفهوم التعليم في شساعته فهو ليس مهنة كما اسلفت بل رسالة، وحتى تؤدى الرسالة كاملة غير منقوصة، وحتى تتحقق أهدافها ينبغي للمدرس(ة) ألا يوجه نظره للسبورة والكتاب المدرسي فقط، بل أن يحس بحضور وجود إنساني لا يرتبط بمقعد جامد نطلق عليه خطأ مقعد الدراسة، بل بتلميذ وتلميذة بمجتمع ننتمي إليه وقد لا ننتمي إذا ألغينا وجوده.
الطريق الأول الذي لم يغادر ذاكرة الكاتبة هداها إلى طريق آخر بينهما تقاطعات كثيرة فكل إنسان هو مشروع مجنون، إذا وجد نفسه محروما من الحب والاحتضان والظروف الاقتصادية والاجتماعية الملائمة، وإذا تعرض للتنمر، أو لأسباب جينية أصيب بعطب خلقي أو عصبي، أوجسدي.
أما الثالثة فقد عبرت عنها في التصدير ، عندما ربطت العمل التربوي بتوفير الظروف الملائمة لاستقبال التلميذ في فتراته العمرية المتوالية طفولة ومراهقة وشبابا، وتجيب الكاتبة في هذا الجزء عن السؤال ما دواعي تأليف الكتاب، إنها تجربة بدأت بفكرة ورسم أهداف لتتجسد في الواقع وتسير في طريق النجاح، فتساهم في وقف نزيف الهدر المدرسي. فجاءت الكتابة حقنة حياة ودما جديدا تدفق في شريان المؤسسة التعليمية يساعدها على البلوغ إلى شاطئ النجاة. وقبسا من نور يكون فنكون.

البوح بصيغة الإبداع
نقرأ في كتاب حيدر حيدر الذي غادرنا قبل أيام ” يوميات الضوء والمنفى ” ” ربما كانت رداء العالم والخوف والتخلف ليس مصدرها من الدولة وحدها ولكنها تلك القيم الراسخة في ضمير البشر وضمير المجتمع، فالأخلاق ( السلوكات ) السائدة حتى الآن أخلاق متوارثة قاصرة ومشحونة بالاضطهاد والخراب النفسي اخلاق قدرية تحاكم وجدان الناس وتحاول ان تسطو على ضميرهم وعلى حركتهم في العالم” النفي هنا نفيان نفي سياسي ونفي آخر أشد مضاضة على النفس وتدميرا لها وهو النفي الاجتماعي، الذي واجهته الكاتبة بكل التحدي والإصرار على التغيير، فتجاوزت بذلك جلسة الاستماع إلى محيط التلميذة: الأسرة وهيأة التدريس وفضاء المؤسسة، لتطيح بالتمثلات السلبية وتخلخل العلاقات التقليدية المساهمة في تكريس واقع النفي للطفل مستقبل المجتمع، وإذا كانت سوداوية الفقرة المختارة من كتاب حيدر حيدر لم تلغ الضوء الذي يبدد سوداويتها كما جاء في عنوان الكتاب ، فهي كذلك الرؤية التي اعتمدتها الكاتبة في كتابها سارليكسيا.
يعتمد الكتاب أسلوب السرد الإبداعي وشعرية الخطاب وترسو به الكتابة على شاطئ القصة القصيرة ، من خلال ثلاث قصص “عائشة” “احكي يا بهية” و”سارليكسيا”، العناوين منتقاة من حقل الأمل عائشة / الحياة، بهية/ البهاء، سارليكسا سارة/ السرور ومحو ل: DYS وتعني الصعوبة ;وتعويضها بسار وربطهاLEXIA القراءة، وهو نحت لغوي اعتمد رؤية أدبية وعبر عن قدرة الكاتبة على الابتكار، والإبداع. بالإضافة إلى رمزية الأسماء عائشة قيل إنها مشتقة من اسم عشتروت الإلهة السومرية، بهية حكاية مصرية أصبحت رمزا لمصر في الشعر العامي مصر يا مة يا بهية، أما سارة فهو اسم متداول في الديانات التوحيدية( زوجة إبراهيم أب الأنبياء )
ونتساءل لماذا اعتمدت الكاتبة البوح بصيغة القصة القصيرة، التي جاء في تعريفها النقدي النظري أنها نوع من السرد المختصر والموجز ذي حبكة غير مكتملة يتمحور حول حدث بسيط في ظاهره يتعمق بتفاعل شخصية معينة معه تأثرا وتأثيرا.
والقصة قصيرة بحكم حجمها لا تتعدى كلمات معدودة وصفحات محددة، واعتماد هذا الجنس الأدبي في الكتاب له غواية عند الكاتبة التي سمعت مثل جيلها حكايات الجدة وقرأت بنهم القصص والروايات فأصبحت عاشقة للإبداع بكل أنواعه فألهمها ذلك العشق الشعر والنثر، وثانيا لأن القصة القصيرة هي وريثة الحكاية الشفوية في التراث الشعبي لكل الأمم تقريبا تحكى للأطفال و يتحلق حولها الناس في مجالس مختلفة. وأشير هنا إلى كلمة (احكي) في عنوان القصة الثانية “احكي يا بهية”.

تتصدر جزء شهادات الناجيات رسالة مفتوحة للتلميذة السابقة “أمل” ونعود معها إلى رمزية الاسم والطريق الذي سارت فيه الكاتبة/ المستمعة، والتلميذات بعد أصبحن ما يردن،( ورد في الرسالة المفتوحة مقاطع من قصيدة محمود درويش : سأكون يوما ما أريد ) فرحة النجاة لا تعادلها إلا سعادة فوزية بنجاح رسالتها.

الرباط في : 8 / 06 / 2023

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2 ـ أذة عائشة حسمي

 كتاب “سارليكسيا” هو دفقة إنسانية حولتها الكاتبة فوزية رفيق إلى تجربة ميدانية، استخلصت منها ما يخدم مهنة التربية والتعليم، فتحول البوح إلى سرد أدبي للأفكار.

للإشارة فالكاتبة انخرطت في هذه التجربة متطوعة، ونحن نعلم أن التطوع هو العمل والجهد المبذول بدون مقابل بدافع المساعدة ورفع المعاناة.

ولوضع هذا العمل في سياقه فكتاب “سارليكسيا” يتناول موضوعا نظر فيه الكثير من المختصين في العلوم الإنسانية لكن الكاتبة اعتمدت مقاربة ميدانية ترفض الوقوف عند حدود التنظير اللهم بعض الإشارات القليلة، محاولة من خلالها سبر أغوار الواقع المعقد، مثلما سارت على نهجه بعض الكتابات المعروفة مثل

  • – كتاب الطاهر بن جلون “أقصى درجات العزلة” الذي أحاط بأوضاع المهاجرين اعتمادا على آلية الاستماع والملاحظة ووصف الحالة النفسية والاجتماعية للمهاجر.
  • وكتاب tête de turc  للصحفي الألماني  Gunter Wallraff الذي تظاهر لمدة عامين بأنه عامل تركي مهاجر  وتسلل إلى حياة المهاجرين الأتراك بألمانيا لمعرفة حقيقة معاناتهم.
  • هناك أيضا الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي أنزل الفلسفة من علياء التأمل والتفكير المجرد إلى واقع السجون في كتاب “المعاقبة والمراقبة”

وقبل الخوض في مناقشة مضامين كتاب “سارليكسيا” تجدر الإشارة إلى أن الكتاب يستجيب لحاجة ملحة لتعميق البحث والنظر في عملية التعلم والتدريس ارتباطا بالوضع المأزوم والترتيب الدولي الصادم للمغرب في مجال التعليم والتنمية.

من الناحية الأدبية نستطيع القول إن الكاتبة استطاعت شد انتباه  القارئ بأسلوبها السلس ، حيث أبدعت في توظيف لغة تخاطب الوجدان والعقل ترقى بذائقة القارئ المحتمل وتؤثر فيه،وتثير شغفه ،وتمنحه الاستمتاع بالمنجز، كما تضمن الحكي سردا ممتعا بانزياحاته وصوره الشعرية على الرغم من الكم الهائل من صنوف المعاناة التي كانت تتعب التلميذات وترهقهن …

وتأكد أن الكاتبة اعتمدت خلال هذه التجربة على آلية الاستماع كوسيلة في التواصل لملء الفجوات النفسية ومد الجسور بين جيلين، وتحدثت عن مدى التأثير والتغيير الذي يحدثه التواصل وحسن الاستماع في التربية والتوجيه باعتباره جسرا ينبني على تقدير واحتضان المستمَع له، ويساهم في خلق بيئة يسودها الاحترام والثقة المتبادلة. ومن خلال هذه الورقة يمكن اعتبار الاستماع هي الكلمة المفتاح في مرحلة التقديم حيث تكرر فعل استمع وكلمة استماع 34 مرة (من الصفحة 17 إلى الصفحة 39)

وقد اعتمدت كذلك في هذا الكتاب على الاشتغال بالتيمات التي عنونت بها حكايات البوح الشفيف.(العنف،الطلاق،غياب التواصل ،التنمر،والتعثر الدراسي،خصوصا مشكل الديسليكسيا)ولأن السرية في الاستماع أمر ضروري فهي لم تنقل لنا الواقع بحرفية بل كانت تجمع بين حكايات متعددة  تلتقي في نفس الموضوع وتنتج منها حكاية واحدة حول نفس التيمة.

مثلا قصة عائشة أو سارة …هي قصة حالات كثيرة تم تركيبها في قصة واحدة. 

استهلت الكاتبة البوح بالحديث  عن “تجربتها مع الاستماع”متحدثة عن الدوافع وراء رغبتها في استجلاء العالم المحيط بها والاستماع إلى نبض الأشياء التي تحركه خاصة في ميدان اشتغالها، بأن ذلك لم يحدث صدفة إنما هو وليد تراكمات وامتداد لفضول معرفي منذ فترة الطفولة، إضافة إلى التشبع بثقافة التضامن والتكافل…  والقارئ يستخلص ذلك من الصورة التي نحتتها حكيا عن انتمائها إلى جيل تربى على هذه القيم…

ونظرا لاهتمام الكاتبة الكبير بالاستماع والتركيز عليه كوسيلة وهدف لبناء الذات أو لترميمها أو لتحقيق التغيير السلس ارتأيت أن أتوقف قليلا عند هذه الكلمة.

يعتبر الاستماع من المهارات التي تؤسس للتوافق فلا وجود لحوار إلا إذا التزم الطرف الآخر بالاستماع، فما المقصود بالاستماع؟

الاستماع: عملية إنسانية مقصودة تعني تَعمد تلقّي مادة صوتية بقصد فهمها، والتمكُّن من تحليلها واستيعابها، وهذا هو الإطار الذي  تحركت فيه الكاتبة، التي زاولت النشاطات الأربع للاستماع وهي الإحساس والتفسير والتقييم والاستجابة، نأخذ مثالا على ذلك من فقرة بالصفحة 78 تقول:

“هذا النوع من الصمت المفاجئ تعودته مع المستمَع لهم، لا تعلم بالضبط لِمَ يصمتون هل يريدون اختبار المستمِع لهم إلى أي حد يتابع حديثهم، أم يساورهم بعض الندم أنهم يحكون أسرارهم، أم يتذكرون…….”

الاستماع إذن عملية تتطلب جهداً وانتباهاً من أجل تواصل أفضل، وفي ارتباط بكتاب “سارليكسيا” نلاحظ أن الكاتبة قد استجابت وعن وعي لشروط الاستماع الجيد: مهارة الانتباه، مهارة التعاطف، مهارة التتبع، تهدئة النفس، تفريغ الأفكار والتركيز على الكلام، وتهيئة البيئة الجيدة والوقت والمكان المناسبين. كما حدث عندما فضلت أن تستمع لإحدى الحالات ببيت أسرتها  وليس بمركز الاستماع لاعتبارات نفسية.

وهناك الإنصات الذي يلعب دورا أساسيا في التعلم وفي كل المجالات التي تتطلب الانتباه والاهتمام والتركيز، ومن يستمع وينصت أكثر يلتقط أفضل.

والكاتبة مارست الإنصات الجيد وهي تتلقى المعلومة، وتحرص على منح الإحساس بالارتياح للمستمع لهم.

أما الإصغاء فهو أقصى درجات الاستماع الجيد، إذا كان الاستماع يتحقق بحاسة الأذن، فالإصغاء تضاف إليه حاسة العين، (مثال: استعمال الإصغاء في العلاج النفسي وفي الخطابات السياسية) لأن العين تنقل للمتلقي التعبيرات التي يرغب المتحدث في إيصالها للمستمع له، ومهارة الإصغاء كتقنية في الاستماع أي الإصغاء إلى حركة الجسد مارستها الكاتبة في الحصول على المعلومة وفي إشعار الآخر بالاهتمام مع التزام الهدوء وعدم إصدار أحكام مسبقة.

هذه كانت مجرد نافذة مفتوحة للتدقيق في معاني الاستماع المتداخلة، ويبدو جليا أن الكاتبة على درجة عالية من الوعي بأشكال حسن الاستماع، والتحكم في الحوار مع المستمع لهم مكنتها من التعرف على قدراتهم ومن التخفيف من غضبهم ومن معاناتهم.

وتنتقل بنا الكاتبة إلى تشخيص بعض الحالات التي تعكس ظواهر نفسية واجتماعية مع تغيير الأسماء طبعا.

في التجربة الأولى أثارت الكاتبة قضية الاستقرار الأسري ومدى تأثيره على الأطفال، وبينما كانت تتفحص الوضع المأساوي للتلميذة عائشة صب الموضوع في إشكالات حياتية أخرى بين الزوجين كانعدام التواصل وعدم تقبل الرأي الآخر والعجز عن إدارة الاختلاف حين تتعارض المواقف.

ثم انتقلت إلى التجربة الثانية مع بهية حيث وضعت الأصبع على موضوع غياب التواصل في العلاقات الأسرية،  فيستبد الغضب بالأطفال إلى حد الانتقام من الآباء  الذين لا ينتبهون إلى خطورة هذا الغياب معتقدين أن دورهم في الحياة توفير شروط العيش الأساسية لأبنائهم من أكل وشرب وضرورات مادية فقط ، فأب بهية لم يعرف معاناة ابنته إلا بعد هروبها من البيت في اتجاه المجهول،فيصدم ويشعر بالتيه ويستوعب  أنه ارتكب خطأ الإقصاء العاطفي وأنه تأخر كثيرا ليسألها بعد عودتها : ما بك يا ابنتي؟

فتجيبه بحرقة : سؤال انتظرته طويلا يا أبي …الصفحة 90

أما التجربة الثالثة مع سارة فالقصة ألهبت المشاعر عندما نجحت سارة وتحدت معاناتها، وتجاوزت أمر اختلافها ومعاناتها بسبب حالة الديسليكسيا العميقة، منها العزلة والتنمر  لكن الكاتبة حركت الكامن من طاقة وقوة عند سارة وحولت انكسارها إلى نجاح.

وبعد تخطي أزمة هذه الصبية استشرفت الكاتبة المستقبل ودعت إلى التحسيس والتعريف بالديسليكسيا، واستلهمت عنوان الكتاب من قصة سارة التي تعاني من الاختلاف في السلوك والنطق فخففت من الديسليكسا وصار الاسم “سارليكسيا”، وعودة إلى غلاف الكتاب فحروف العنوان “سارليكسيا” كتبت على شكل أعمدة قوية تسلقتها سارة للوصول إلى نقطة الخلاص بأعلى ركن على الغلاف، بوثقة نور أرسلت أشعة بيضاء من الأمل ملأت حيزا كبيرا من الجزء العلوي للغلاف.

 ونلاحظ أن تعدد البقع السوداء التي يضمها الغلاف يساوي تعدد وعمق المعاناة، منها التنمر وعدم تفهم المحيط التربوي وإحباط الوالدين وعدم الدراية بالحالات النفسية للأبناء…..

الخلاصة أن كتاب “سارليكسيا” بوح وسرد قصصي مشوق هادف يساهم في نشر الوعي باستعمال آلية الاستماع إلى معاناة التلاميذ باعتباره وسيلة بيداغوجية ناجعة. وقد أثبتت الكاتبة نجاعة هذه الآلية في التغيير وأثرَها الإيجابي على النفسيات.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button