قضايا العدالةلحظة تفكير

أذ/ عبد اللطيف وهبي: الأساس التشريعي لرقمنة الإجراءات القضائية

تنزيل مشروع "التحول الرقمي للإدارة"

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
وعلى آله وصحبه أجمعين

يأتي تنظيم هذه الندوة الدولية حول موضوع “الأساس التشريعي لرقمنة الإجراءات القضائية” لما يكتسيه من راهنية وأهمية القصوى، وتكريسا للنهج الذي اختارته وزارة العدل بالانفتاح على الفاعلين بمنظومة العدالة ببلادنا، وعلى التجارب الدولية في الموضوع، ولمواكبة أوراش الإصلاح المفتوحة من طرف الحكومة المغربية لتنزيل مشروع “التحول الرقمي للإدارة”، من خلال توطيد أواصر التعاون وتبادل التجارب والممارسات الفضلى بين الدول في هذا المجال. وإذا كان مشروع التحول الرقمي للعدالة يستمد مرجعيته أساسا من التوجهيات الملكية السامية المضمنة في نص الرسالة الملكية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، إلى المشاركين في الدورة الثانية لمؤتمر مراكش الدولي للعدالة، والتي جاء فيها:
«ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية، وتبني خيار تعزيز وتعميم لامادية الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية، والتقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة والنجاعة، وذلك انسجاما مع متطلبات منازعات المال والأعمال، مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي..» انتهى النطق الملكي السامي.
فإن ذلك يجعل من هذا المشروع ورشا استراتيجيا لإصلاح شامل لمنظومة العدالة يجعل من المرفق القضائي بنية أساسية في مسار تكريس مقومات الدولة الحديثة وتعزيز دولة الحق والقانون.
وهذا ما أكدته توصيات ميثاق إصلاح العدالة ، التي اعتبرت أن نجاعة منظومة العدالة وإرساء مقومات المحكمة الرقمية يقتضي اعتماد وسائل الاتصال الحديثة لتسريع الإجراءات والمساطر القضائية وحوسبة المحاضر لضمان معالجتها الحينية في إطار التواصل عن بعد، باستعمال التكنولوجيا الحديثة.
حضرات السيدات والسادة المحترمين
اعتبارا للبعد المجتمعي لورش إصلاح منظومة العدالة، فإن وزارة العدل، ومنذ المراحل الأولى لبلورة مشروع التحول الرقمي للعدالة، تبنت بكل طواعية مقاربة تشاركية فعلية مع كل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وتكريسا لهذا المنحى وسعت وزارة العدل من دائرة مشاوراتها مع باقي الشركاء على المستوى الوطني المعنيين برقمنة الإجراءات القضائية سعيا منها لتجويد هذا المشروع وملاءمته مع انتظارات كافة الفاعلين المؤسساتيين.
وبنفس النهج التشاركي، بادرت وزارة العدل إلى الانفتاح على التجارب المعمول بها لدى شركائها الدوليين، والذين عبروا عن دعمهم ومواكبتهم لتنزيل هذا المشروع المهيكل، وبهذه المناسبة لا تفوتني الفرصة للتنويه بمجهودات شريك وزارة العدل في تنظيم هذه الندوة الدولية، في شخص الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية بالمغرب، على ما يقدمه لمسلسل التنمية المستدامة ببلادنا بشكل عام، وانخراطه في مواكبة مشروع التحول الرقمي لمنظومة العدالة بشكل خاص ، كما أتوجه بجزيل الشكر لكافة الفعاليات المشاركة من رجال القضاء و القانون والخبراء في الشأن القضائي ، والفعاليات ذات الاهتمام بمجال العدالة الرقمية، الذين يحضرون معنا اليوم لتمثيل مؤسسات حكومية وغير حكومية من داخل المغرب، ومن دول صديقة وشقيقة، لعرض تجاربهم ومناقشة أفكارهم واستحضار الممارسات الفضلى وتبادل الخبرات، واقتراح حلول جديدة و واقعية.
حضرات السيدات والسادة المحترمين
حرصا على الدفع بمسار الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ببلادنا، والذي يتقاطع في غاياته مع التوجهات الاستراتيجية للنموذج الجديد للتنمية، فقد اعتمدت وزارة العدل نهج حكامة تعتمد على تحديث الترسانة التشريعية وملاءمتها مع التحولات العميقة والمهمة التي تعرفها بلادنا على جميع المستويات، وعلى رأسها ورش تعديل قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية ، وكان من الضروري أن يطال التعديل الترسانة القانونية الناظمة لمجال إدخال التكنولوجيات الحديثة في مجال تصريف العدالة بالمحاكم، وذلك وفقا للقواعد والمعايير المعمول بها وطنيا ودوليا؛
ومن هذا المنطلق، عملت وزارة العدل على إعداد مسودة مشروع القانون رقم 27.21 المنظم لرقمنة الإجراءات القضائية في المجالين المدني والجنائي، والتي تروم من جهة، إلى استعمال الأنظمة الرقمية في إجراءات التقاضي المدنية لإيداع مقالات الدعاوى والطلبات والطعون وجميع الإجراءات القضائية، إلكترونيا أمام مختلف محاكم المملكة، بما فيها التبليغ الإلكتروني ، مع اعتماد نظام الأداء الإلكتروني كلما تعلق الأمر بتأدية رسم قضائي أو إجراء مالي ، واعتماد الحسابات الإلكترونية المهنية بالنسبة للمحامين والمفوضين القضائيين والخبراء، في التواصل مع المحاكم مع اعتماد التوقيع الإلكتروني والعناوين الإلكترونية بالنسبة للإدارات العمومية وباقي الأشخاص الاعتبارية، وتحديد الأثر القانوني للإجراءات.
ومن جهة ثانية يروم هذا المشروع إلى استعمال الرقمنة في كافة مراحل الدعوى العمومية بنفس الضمانات الممنوحة للأطراف خلال المحاكمات ذات الحضور المادي وبترتيب الأثر نفسه ، ولاسيما مباشرة إجراءات البحث والتحري أو التحقيق وإمكانية عقد جلسات افتراضية وإجراء المحاكمات عن بعد عبر تقنية المناظرة المرئية بموافقة المتهم؛ وتنظيم الاستماع عن بعد لأشخاص موجودين داخل المغرب أو خارجه لهم علاقة بالخصومة، تفعيلا لمضمون الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية، كآليات التعاون القضائي في المادة المدنية والمادة الجنائية.
كما يضمن المشروع المعالجة المعلوماتية للمحاضر المنجزة في إطار إجراءات الدعوى المدنية والجنائية وتذييلها بالتوقيع الالكتروني من طرف من خول له القانون القيام بذلك، فضلا على المعالجة المعلوماتية لبطائق السجل العدلي وتذيلها بتوقيع إلكتروني.
ما يجسد وبشكل فعال انخراط وزارة العدل في مجهودات الحكومة المغربية الرامية لوضع الآليات التي ستحول الإدارة التقليدية القائمة على العمليات الورقية إلى إدارة تعتمد آليات تكنولوجيا المعلوميات في مجال تصريف العدالة بمختلف محاكم المملكة المغربية، عبر نظم معلوماتية خاصة بالقضايا المعروضة على المحاكم تعتمد رقمنة الإجراءات المتعلقة بتجهيز الملفات وتبادل وثائق ومذكرات الأطراف وتبليغ الطيات والاستدعاءات والشواهد الإدارية والقضائية والمقررات القضائية، وتنظيم المحاكمة عن بعد، لضمان تحسين جودة الخدمات المقدمة بالشكل الذي يحقق السرعة والدقة والشفافية وتعزيز الثقة بين الإدارة والمرتفق، و تذليل مختلف العوائق و الصعوبات الناتجة عن الطبيعة المادية للإجراءات، تكريسا للحق المكفول دستوريا للمتقاضي في صدور أحكام قضائية داخل آجال معقولة، المنصوص عليه في الفصل 120 من دستور المملكة، باعتباره في مقدمة انشغالات المتقاضين والمرتفقين.
حضرات السيدات والسادة المحترمين
إن العدالة اليوم تشهد تحولات عميقة عبر مختلف بقاع العالم، وذلك نتيجة لتطور وتسارع عدة عوامل داخلية وخارجية، يبقى أبرزها مرتبطا بهيمنة الثورة الرقمية على حياة الأفراد والمجتمعات والمؤسسات.
وفي ظل هذا السياق الجديد المتسم بتغير كل المفاهيم والتصورات الكلاسيكية حول العدالة ومناهج تدبيرها كمرفق عمومي يخدم بالأساس مصلحة المتقاضي، يمكننا أن نجزم بكل أمانة وفخر أن المملكة المغربية التي انخرطت جهويا ودوليا بشكل إيجابي في كل المبادرات والمشاريع التي تجعل من إصلاح منظومة العدالة رافعة أساسية في مجال تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتي يسعى من خلالها المنتظم الدولي الأممي عبر أجندته لسنة 2030، وتحديدا على مستوى الهادف السادس عشر،:” التشجيع على إقامة مجتمعات مسالمة لا يُهَمّش فيها أحد ، وإتاحة إمكانية وصول الجميع إلى العدالة، وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات.”
وإذا كنا اليوم نتوقف عند إحدى أبرز المحطات التي نعيشها على مستوى ديناميكية الإصلاح الداخلي الشامل لمنظومة العدالة والتي نأمل أن تشكل مرجعية لكل الجهود الوطنية الرامية إلى تحديث أساليب اشتغال الإدارة والمرفق القضائي.
فإن ما يجب التنبيه إليه في هذا المقام، أنه وبغض النظر عما تتيحه الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي من حلول تدبيرية ناجعة لمرفق العدالة، يبقى من اللازم مواكبتها بإطار تشريعي دقيق يضمن حماية حقوق جميع الأطراف في الدعوى، ويساعد على قيادة التغيير في مجال ينعت بكونه بطيء التحول، اعتبارا لطبيعة وجسامة الوظائف الموكولة إليه، وبالنظر إلى الثقافة المحافظة السائدة به.
حضرات السيدات والسادة المحترمين
اعتقد جازما أنه لن يتأتى إدراك هذه المقاصد السامية إلا بالإرادة الصادقة لمختلف المتدخلين في منظومة العدالة والعمل التشاركي الجاد للفاعلين فيها، ذلك أن المسؤولية مسؤولية مجتمعية ومشتركة بين كل الأطراف، غايتها الرفع من مستوى أداء العدالة ومن جودة خدماتها، وترسيخا لحماية الحقوق والحريات.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أجدد الشكر والتنويه لكم جميعا على مشاركتكم في هذا اللقاء العلمي والمهني، وأملي أن ينتهي لقاءنا هذا إلى مخرجات من شأنها أن تسهم في إغناء الترسانة القانونية لمنظومة العدالة الرقمية، بما يخدم مصلحة المتقاضين ويعزز ثقتهم فيها، لما فيه خير الصالح العام لبلادنا تحت القيادة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم.
والسلام

‏مقالات ذات صلة

Back to top button