فنون وثقافة

أذ/ م علي الخامري: المأمول المفقود في رحلة التيه والمجهول داخل ديوان الشاعرة دليلة حياوي”في حياة أخرى” ـ 6 ـ

الحلقة السادسة :

توطئة عامة :

الشاعرة دليلة حياوي مبدعة متعددة المواهب ، ومتنوعة المشارب ، فهي شاعرة وكاتبة ، وصاحبة صالون أدبي عريق : ( جنان أركانة )
تقيم في روما بإيطاليا ، وأصلها من مدينة مراكش بالمغرب ، ولها ولع كبير بحياة الفكر والفن والإبداع الإنساني بصفة عامة .

صدرت لها لحد الآن مجموعة من الإصدارات الإبداعية ، تلخص لنا تعدد مواهبها الفنية ، كما نستشف ذلك من العناوين الآتية :

  • رواية بعنوان : ( يوميات زوجة مسؤول في الأرياف ) .
  • ديوان شعر بعنوان : ( شراع اليَرَاع ) .
  • ديوان شعر بعنوان : ( في حياة أخرى ) وهو موضوع قراءتنا .
  • مسرحية بعنوان : ( تكشبيلة مراكشية ) .
  • ديوان عربي إيطالي بعنوان : ( فحيح الزعفران ) .
  • ديوان عربي إيطالي رقمي بعنوان : ( نسيم الجنوب ) .
  • شذرات صحفية نشرت بالصحافة العربية والإيطالية تحت عنوان : ( بريد من الماضي ) .

هذه الحمولة المكتنزة ، وهذا العطاء المتنوع هما اللذان كانا سببا للانكباب على قراءة ديوانها ( في حياة أخرى ) في طبعته الأولى الصادرة سنة 2016 عن دار الجندي للنشر بالقاهر ، وهي دعوة مفتوحة لكل القراء ، عشاق الشعر ، والكلمة الفنية للتتبع والموكبة من أجل سبر أغوار الشعر النسائي المغربي المعاصر كما تراءى لنا في تجليات الديوان المذكور .

مضمون الحلقة السادسة :

5 – ب – هنيهات التمني والملاحظة : وجه آخر في رحلة شاعرتنا الوجودية ، فبعد الحريق ومراحل الشك والحيرة جاء أوان أن تمنح لنفسها وللقارئ فرصا جديدة للتنفس والاسترخاء ، وهذا من مدلولات الإنصاف الإبداعي الذي يجري على لسان كل مبدع حر ومثقف وأصيل ، فحمق الحياة الملاحظ ، واستهزاء القدر المستمر بالإنسان يتطلب وعيا خاصا من المبدع ، والمفلس من المبدعين من يقف عند مظاهر السلب ، ويسخر طاقته الإبداعية ، أو يستنفدها في الحديث عنها ، والتعرض لتفاصيلها ، وكذلك الأمر بالنسبة لمظاهر الإيجاب ، ولهذه الظاهرة المنافية لحقيقة الإبداع الكثير من النماذج الفاشلة ، فهناك طاقات إبداعية أفلست بالتعصب للموقف الأيديولوحي الجاف الجامد ، أو المتحرك كما نلمس ذلك في إبداعات التيارات الفكرية المغلقة ، ومنه ما يلمس في شعرنا الحديث على مستوى نبرة التشاؤم المسيطرة ، والغلو في تبني أفكار العبث والاغتراب ، ومعاداة الفِطَر السوية حتى تحول بعض المبدعين إلى أبواق حاكية لما يطلب منها ، أو بما تُؤمَر به وإن انعدمت الصلة الضرورية الجامعة بين المبدع وإبداعه .

شاعرتنا كانت منصفة مع ذاتها وتجاه القارئ ، وظلت حرة في واقعها ، وفي إبداعها ، ولهذا نراها تتنقل بانسياب وعفويه ما بين محطات الحياة الواقعية ، فالمبدع إذا لم يستطع تغيير واقعه فعليه ألا يكون ضحية له ، ولقمة سائغة في فمه ، بل عليه أن يقف ، ويجابه ، ويحارب ولو على مستوى التأمل والحلم والخيال ليساير دفقات الحياة الواقعية ، تقول شاعرتنا في قصيدة بعنوان : ( وددت – الصفحة : 36 ) :

وددت…..
لو أطير إليك
لو أكون….
نسمة توقظ جفنيك
رمشا….يحرس عينيك
عطرا ينفذ حتى أعماقكَ…
يسكن صدغيك
شمسا تنير شفتيك
وددت لو أطير إليك
أغوص بين ثناياك…
أكتشف المكان

أجمع شتاتك المبعثر عبر الزمان
أحيي بقايا سعد فيك…..
أجلي جيوش الأحزان
وينير حبي بداخلك الإنسان
وددت….لو أطير إليك .

قصيدة ( وددت ) اسم على مسمى كما يستشف من تجليات المقطع الدلالي المتوثب ، ونهاية البدايات ، وبداية النهايات .

ولقد تعمدت السير على نهج ترتيب قصائد ديوان : ( في حياة أخرى ) كما وضعته الشاعرة ، لأنني أدركت بواسطته معاني الإنسان الكثيرة والمرتبطة بلحظات الزمن المتعاقبة والمتناقضة ، فلم أقم مثلا بجمع مناحي السلب أو الإيجاب في منحى أو عنوان واحد ، وإنما تركت الفوضى كما هي مجسدة في قاع النفوس ، وفي قصائد الديوان .

5 – ج – زمن المراجعة والاعتراف بفقدان السند : الشاعرة دليلة تذهلك بمفجآتها المتتالية ، فبعد الحديث عن مواقف الإنصاف والتتبع والإنصات تأتي بك إلى مضامين وبوح حي يعبر عن لحظاتها الجديدة والمستمرة عبر حفريات الفعل الإبداعي في دواخلها .

في أحيان يجب على المبدع أن يقف ويستريح ويراجع ، ويعترف لتكتمل الصورة ، فالإبداع ليس وحيا طاهرا وكاملا يهبط من السماء ، وإنما هو فعل الإنسان بمحدودية جوارحه وتصوراته ، وفيه من النواقص ومظاهر الغشاوة مما يتسم به صاحبه ، ومما يروج في الوجود والحياة ، ولهذا وجب التقويم والنقد ، ومشاركة المبدع في التوجيه والقراءات العامة .

ومن حسن نهج شاعرتنا في ديوانها أنها كانت تنوع اللحظات الإبداعية بما تراه مناسبا ومفيدا للزمان والمكان والإنسان ، وتعتبر قصيدة: ( ربما ) دليلا ونموذجا للمضامين النفسية المتناثرة والمختلفة ، ففيها نجد الشاعرة تتحدث بلغة غير جازمة هادئة و مسايرة ودالة بالشك وزعم اليقين على التغيير والزيادة والنقصان ، وقابلة لمساهمات القراء وتدخلاتهم ، وتوجهاتهم المشابهة والمسعفة ، فلفظ ( ربما ) له كل تلك الدلالات المتعددة والمشكوك في هوياتها المتناسلة ، تقول في ( الديوان : الصفحة : 38 ) :

( ربما )
كان حبه وهما
همت به دهرا…..
لا يوما
وربما
ادعاء….
وربما زعما
لنفسي علةً…
لفكري سقما
قسرا….
اعتراني وربما
لم يمنحني الخيار…
ولا الكلمَ
مغبة إبائي ربما

قد أكون أحببته…
قد أكون عشقته
وكلَّ ما تمنيته…
ومن الحياة رجوته
ربما….

وهكذا ترسم لنا لوحات دلالية متعددة ومستفادة من التجربة المريرة إلى درجة أن القارئ يحس بتيهان مع متعلقات لفظ ( ربما ) وهو ينوع ويسافر مع المعاني المرادة بنبرة يغلب عليها الشك ، وتتلبس بالحيرة ، وقد تكون جنحت حتى وصلت إلى مفهوم الندامة الوجودية الفاقدة لأي اتصال بالحياة وعلى جميع المستويات .

وقد تطور موقف الشاعرة بسرعة لما أحست أنها بمواقفها السابقة ربما يفهم منه أنه أعلان عن نية مغادرة الحياة والوجود ، وأنها أنصفت نفسها ، وما أنصفت الآخر المصاحب والمؤثر ، وربما ذلك الآخر تذكرت منه أشياء فاتت عنها وهي في زحمة تيهان الحياة ، وتحت ضغوطها السلبية ، وقد تحدث أحداث في نفسها ، وفي واقعها جديدة ومغايرة تدفع الشاعرة إلى الوقوف ، والتماس نفحة من الوعي تعيد بواسطتها تشكيل المفاهيم ، وتمنح لها فرصة للانعتاق والتطلع إلى رؤية مستحدثة ومتعارضة مع كل ما سبق ، ولعل الشاعرة مرت بهذه التجربة ، وحنَّت إلى سند ينتشلها من وهدتها العميقة ، تقول في قصيدة : ( أنين ) وهي قصيدة دالة بعنوانها ومضمونها ( الديوان : 42 ) :

يا من لي بمن….
أميل عليه رأسي
أشكوه ضعف
حيلتي ….وبأسي
يمطر رمشي ثوبه..
بزخات لوعتي وبأسي
وفي لحظة يحيل
سعدا ما كان من بؤسي
قد عتق بدنان العمر..
وبكم إبريق وكأس
يا من لي بمن….
أميل عليه برأسي
ولا بعيدا يصبحه..
سيل البين عني…
ولا يمسي .

هكذا يكون مزاج المبدع حين يبدع وكل الذكريات والوقائع تحثه على الاستدعاء والبوح بما يجعلها قائمة ومعتبرة ، ومؤثرة في مجاري الحياة بالحضور والغياب ، بالقرب والبعد ، بالإحساس بالحياة ، والرغبة في الاختفاء والخروج من مصائد الوجود الجاثمة والمعيقة .

وهذا ديدن الإبداع ومنذ القدم ، وشاعرتنا تعتبر جزءا مهما من ماهية الإبداع تلك وبحمولاتها المستمرة والمتنوعة ، ونعم قولها في ديباجتها القصيرة لأعلى القصيدة المتقدمة : ( ولسياط الخذلان ألوان….أدكنها ما دبغ بمعاقل القربى ! ) .

( يتبع .. )

‏مقالات ذات صلة

Back to top button