‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د. حسب الله مهدي فضله التشادي*: بين انتخاب الرئيس التركي وتنصيب الرئيس النيجيري ..أوجه اتفاق واختلاف أم دروس وعبر؟

**
يبدو لي أن المناسبات التاريخية يحدث بينها ما يشبه التنافس بين بني البشر، أو أنها تتأثر بعظمة الأشخاص الذين ارتبطت بهم، فقد يلتقي رجل عظيم برجل أعظم منه فتتلاشى عظمة الأول وتنضوي تحت عباءة الثاني،
وهكذا تأتي مناسبة مهمة فيحدث ما هو أهم منها، فتذوب الأولى وتتلاشى كأنها لم تحدث.
وقد خلد الأدب العربي بعض الحالات المشابهة، من أشهرها حادثة وفاة الأديب العظيم مصطفى لطفي المنفلوطي عام ١٩٢٤م التي كان من المفترض أن يكون لها صداها الكبير في الأوساط الأدبية والثقافية في مصر والعالم العربي آنذاك، لكنها تزامنت مع محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول وإصابته بطلق ناري فاهتزت الدولة والمجتمع بأسره لذلك، ولم يلتفت أحد إلى وفاة المنفلوطي وكاد أن يضيع في غياهب النسيان، لولا وفاء صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أبت قريحته الشعرية إلا أن تخلد هذا الموقف في قصيدة رائعة يرثي فيها المنفلوطي ويعتذر له عن الإهمال الذي تعرض له في يوم وفاته بسبب تصادمه مع حدث أكبر وهو إطلاق النار على زعيم الأمة سعد زغلول، فيقول شوقي مخاطبا صديقه الراحل المنفلوطي:
اِختَرتَ يَومَ الهَولِ يَومَ وَداعِ
وَنَعاكَ في عَصفِ الرِياحِ الناع

هَتَفَ النُعاةُ ضُحىً فَأَوصَدَ دونَهُم
جُرحُ الرَئيسِ مَنافِذَ الأَسماعِ

مَن ماتَ في فَزَعِ القِيامَةِ لَم يَجِد
قَدَماً تُشَيِّعُ أَو حَفاوَةَ ساعي

ما ضَرَّ لَو صَبَرَتْ رِكابُكَ ساعَةً
كَيفَ الوُقوفُ إِذا أَهابَ الداعي


الأمر نفسه ينطبق على هذين الحدثين اللذين تصادف وقوعهما في وقت واحد، فغطى أحدهما على الآخر حتى كاد أن يفقده أهميته وبريقه، وأعني بذلك انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتنصيب الرئيس النيجيري المنتخب أسيواجو بولا أحمد تينوبو خلفا للرئيس المنتهية ولايته محمد بخاري.

وكما فعل شوقي، أود أن أتجاوز الحديث عن انتخاب أردوغان باعتباره الحدث الأبرز الطاغي على ما سواه من الأحداث، والذي أفاض المحللون والمهنئون والداعمون والساخطون في الحديث عنه، بما لا يدع مجالا لمستزيد، لذا أركز على مناسبة حفل التنصيب أو التسليم والتسلم بين الرئيسين السابق والجديد لدولة نيجيريا الفيدرالية.
وذلك من خلال بعض النقاط والملاحظات التي رأيت أنها تستحق الوقوف عندها فيما يلي:
أولا: تبرز الحالة النيجيرية أن تطبيق مبدأ الانتخابات الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة ليس أمرا مستحيلا في القارة الأفريقية شريطة أن يتحلى الشعب بالوعي والنضج السياسي، ويتحلى الساسة بالوطنية وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصلحة الشخصية الضيقة.
وهذا من أوجه الشبه التي تلتقي فيها التجربة النيجيرية مع التجربة التركية التي أكدت بدورها أن تطبيق النهج الديمقراطي للوصول إلى السلطة أمر قابل للتحقيق في دول العالم الإسلامي، فهي ليست حكرا على العالم الغربي وحده.
ثانيا: من الملاحظات المتعلقة بالرئيس محمد بخاري أنه الآن يسلم السلطة إلى خلفه بطريقة حضارية وبروح معنوية عالية ونفس مطمئنة، لأنه مقتنع أنه يسلم السلطة إلى خلفه بالطريقة نفسها التي استلمها بها وهي عبر صناديق الاقتراع.
فالجنرال بخاري الذي يودع الرئاسة اليوم، مصافحا خلفه بابتسامة عريضة أمام الكاميرات، مسلما إياه ملفاته الرئاسية وتقرير حكومته السابقة، بكل روعة وجمال وجلال وأمان واطمئنان، يختلف تماما عن الجنرال بخاري الذي تخلى عن السلطة عام ١٩٨٥ مرغما عن طريق انقلاب عسكري قاده خلفه الجنرال بابنغيدا، لأنه أي بخاري نفسه كان وصل إلى السلطة حينها عن طريق الانقلاب عام ١٩٨٣م، فقدر الله له أن تنتزع منه سلطته عنوة بالأسلوب نفسه الذي أخذها به، بكل ما تحمله كلمة (انقلاب) من معاني القهر والعنف والشدة وانعدام الأمان، فجعله الله عبرة لغيره من القادة والزعماء في الحالتين: حالة استلام السلطة بالقوة تركها أيضا بالقوة، وحالة تحكيم صوت العقل والتخلى عن نهج القوة، حيث خاض الانتخابات مرتين (2003 و 2007) ولم ينجح فيهما إلى أن اعتادت نفسه وعقليته المنهج السلمي، بعيدا عن الهيمنة والعنفوان العسكري، فتولى السلطة بالانتخابات الديمقراطية، وها هو اليوم يسلم السلطة بالطريقة نفسها، ويترك كرسي الحكم وهو بكامل الاحترام والتقدير مرفوع الرأس مرتاح الضمير. ففي ذلك عبرة للمعتبرين.
ثالثا: من خلال المقارنة بين التجربتين النيجيرية والتركية نلاحظ وجود اختلاف كبير بين الرئيسين الفائزين، ففي حين يستند الرئيس التركي إلى رصيد ضخم من الإنجازات التي حققها خلال الفترة السابقة من وجوده على السلطة وتدرجه في مستوياتها المختلفة، أتاح له الحصول على الدعم الشعبي بأغلبية مريحة، فإن الرئيس النيجيري الجديد لا يجد مثل تلك الأرضية الثابتة، بل قد يعاني من بعض النقاط السلبية التي تشوه جزءا من ملفه السياسي في الفترة السابقة، كما يرى خصومه، وهنا يأتي الدور الرقابي الذي ينبغي أن يؤديه الشعب النيجيري من خلال نخبه السياسية وطبقاته المستنيرة، التي يجب أن تسعى لإيجاد آليات ديناميكية تتفاعل مع الأحداث، وتشكل وسيلة ضغط ومراقبة وتوجيه للرئيس الجديد وطاقم حكومته، من أجل أن يكونوا نموذجا إيجابيا للنهج الإصلاحي الذي تنتظره الشعوب الأفريقية لمعالجة ما تعانيه من تحديات وتحقيق ما تصبو إليه من تطلعات، حتى تكتمل فرحتها بهذا العرس الديمقراطي الذي تعيشه القارة الأفريقية كلها اليوم في تلاحم أخوي مع الشعب النيجيري، في وقت تعاني فيه بعض الدول الأفريقية الأخرى لحظات عصيبة من الحروب والاضطرابات والمعاناة، نتيجة إصرار بعض أبنائها على استعمال القوة والعنف كوسيلة أساسية للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.

وعلى ذكر العرس الأفريقي أتذكر أحد التقاليد الشعبية السائدة في بعض بلداننا الأفريقية في أيام الأعراس والزفاف، كنوع من الترفيه والمداعبة يقوم بها بعض الشبان العزاب الذين يتطلعون إلى الزواج، فيقتربون من العريس ويمسحون كعوب أرجلهم بكعب العريس أو ساقه، تفاؤلا بأن تنتقل إليهم العدوى السعيدة فيحظوا بالزواج والعرس في وقت وجيز.
لذا أدعو أصحاب الفخامة من قادة الدول الأفريقية الذين توافدوا إلى نيجيريا دون أن تشهد بلادهم مثل هذا العرس الديمقراطي المتمثل في التداول السلمي للسلطة، أرجو منهم أن يقتربوا من العريس/ الرئيس النيجيري المنتخب، ويمسحوا أقدامهم بقدمه حتى ينقلوا هذه العدوى الطيبة المحمودة إلى جميع بلدانهم الأفريقية، لتحظى بمثل هذه الأفراح البهيجة، وتنعم شعوبهم باستخدام حقوقها المشروعة في الانتخاب الحر والتصويت السليم والتوصل إلى النتائج بكل شفافية وموضوعية، وبذلك يضمن هؤلاء القادة الأفارقة لأنفسهم فرصة الخلود في قلوب شعوبهم وتاريخ أمتهم محاطين بكل معاني الحب والتقدير والاحترام، حينما يصلون إلى نهاية الفترة الزمنية التي قدر الله لهم البقاء فيها على رأس السلطة.
ختاما، أجدد تهنئتي لكل من الشعبين الشقيقين: النيجيري والتركي بهذه اللحظات التاريخية الجميلة التي يعيشونها الآن، سائلا الله أن يوفق القائدين اللذين تحملا أعباء المسؤولية في هذين البلدين، ويعينهما على الوفاء بمتطلبات هذه المسؤولية وأداء الأمانة، وأن يسهل لباقي دول أمتنا حكاما ومحكومين الاستفادة من هذه التجارب القيمة، وتسخير مواردهم على الوجه السليم المفيد للبلاد والعباد، ويرضي رب العالمين الذي له ملك السموات والأرض.
حفظ الله بلادنا الغالية وقارتنا الإفريقية وأمتنا الإسلامية والإنسانية جمعاء.

*رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بأفريقيا

‏مقالات ذات صلة

Back to top button