‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د محمد فخر الدين: أنثربولوجيا الحجم .. العيد الكبير والعيد الصغير

علامات تشوير في التاريخ العام

عيد سعيد لقراء “كش بريس” ..

تقديم  :

تعددت الأعياد و الأيام البهيجة المخصوصة بالاحتفال الجمعي والبهجة والسرور قبل أن تنال منها بعض الظواهر السلبية الغلاء والوباء وضعف الذاكرة ورقمنة المشاعر و التبريكات …لقد توزعتها الأعياد الدينية ذات الأهمية الخاصة المستمدة من الدين الحنيف والاعياد الوطنية المستمدة من تاريخ الوطن  والأيام المخلدة المستمدة من التراث العالمي و الوطني  ..

و تلعب الأعياد في الغالب  دور علامات التشوير في ذاكرة الأيام التي تتداول بين الناس، أن من وظائفها محاربة الرتابة  و الملل الذي لا يتحمله الإنسان في علاقته بالزمن ،  إذن لا بد له من محطات ثابتة للتجديد يعود إليها كل عام مرة لكي يستعيد الزمن المجيد و يسترد أنفاسه، لكي يعانق المقدس في الأعياد الدينية و يجدد علاقته بخالقه ، و لكي يحتفل بالتاريخ العام أو الخاص و حتى  الشخصي  في غيرها .

و يختلف من هذا المنظور حجم الأعياد و حضورها في المتخيل الجمعي و لعل أهمها هو العيد الصغير كاحتفال بانتهاء شهر من الصيام ، و العيد الكبير كاحتفال بتقديم الأضحية تقربا و تكبيرا  للخالق ..وتظل هاتان المحطتان ذات أهمية بالغة في حياتنا  الدينية والاجتماعية ..

العيد و الذاكرة

في الوقت التي ضعفت فيه الذاكرة و ابتسرت الاعياد و الاحتفالات الشعبية التي كانت تؤكد على الهوية المشتركة ، حيث استطاعت العولمة و آليات الاستقطاب الرأسمالي  أن تحول المجتمعات إلى مجرد أفراد إنتاج لا صلة تضامنية بينهم ، و أرست علاقات المصالح مكان علاقات القرابة ،و لم يعد مكان للأعياد التقليدية إلا كطقوس شكلية احتفالية أفرغت من مضمونها الاجتماعي الدال على التضامن الاجتماعي  …

العولمة من طبيعتها  لا تحب الذاكرة الجمعية لذلك تقوم بتفتيتها و جعلها غير ذات معنى، فهي تشن حربا مفتوحة على الذاكرة المحلية و تضعفها باستمرار بزرع الوهم بزوال الحدود بين العوالم المختلفة ،  حتى تؤكد نظرتها في كون العالم قرية صغيرة والحياة نمط واحد و هو نمط الاستهلاك الراسمالي السريع المعبر عن ثقافة السوق العالمية ..

لقد كان العيد ـ و لا زال في حدود ما ـ هو نقطة الارتكاز الأساسية الجامعة و المجسدة لهوية الشعوب و انتمائها الديني و الحضاري ، و المتنفس الاحتفالي  الجمعي  الذي تسترد فيه الجماعة قوتها و ذاكرتها على شكل استعادة سنوية ..

العيد و الزمن

إن الزمن من المنظور الفلسفي خطي مستمر و مرعب لا يعبا بالإنسان و المجتمعات و لا بتاريخ الأرض نفسها ، فهو  في تغير مستمر متواصل لا يمكن فهمه و لا التنبؤ بمآله بشكل دقيق ، و قد يزيد تهور الإنسان و أسلحته المدمرة النووية و البيولوجية من صعوبة هذه التوقعات،و دون هذه المحطات السنوية التي يعود إليها الإنسان لإحياء الذاكرة و إعادة محاكاة ذكريات البدء  و الطقوس القديمة ..والتي تعود كل سنة فيستعيد بها الإنسان المعاصر قطعة من الزمن المجيد و المقدس ، زمن الرسل والأنبياء و الأسلاف  ..يسود القلق على المصير و الخوف من المستقبل ..

 إنها وسيلة أساسية للتغلب على القلق الذي يكابده الإنسان من الزمن ، فالعيد بجماليته و بالأمل الذي يزرعه في ذهن الإنسان ـ كما كان في السابق ـ يقوم بتكسير هذا الزمن الخطي المستمر إلى ما لا نهاية بشكل رهيب  ..

الزمن الخطي زمن مستمر متواصل دون انقطاع لا تشكل فيه حياة الأفراد إلا حلقات ضعيفة متلاشية ، انه يحدد الحياة بالبداية و النهاية،  بالولادة و الوفاة بل بالأرقام و الأعداد فقط و النسمات ، يظهر معه الزمن كقطار لا يتوقف لينتظر أحدا ، و لولا هذه المحطات الاستراحية  التي هي الأعياد  التي تقطعه باستمرار و تعود به الى بدايته في شكل زمن دائري   ، لاستبد بالإنسان رهاب الزمن ..

العيد و الفرح  

تتسم أيام العيد بالصلوات وذكر الله، والفرح والعطاء، والعطف على الفقراء ، وتزدان المدن والقرى الإسلامية بثوب جديد، كما أن الأطفال يلبسون أثوابا جديدة، وتكثر الحلوى والفواكه في بيوت المسلمين.

العيد فضاء للفرح و استعادة الماضي و ضخ امل جديد في الحياة الجماعية و ما الاحتفالات الشعبية  التي كانت تصاحب العيد  هرما ـ  بوجلود ـ  شيخ القديد ـ  الا وسائل لتامين الفرح الجمعي الذي يشارك فيه الجميع دون استثناء على شكل كرنفالات مرحة تجدد الحياة الاجتماعية ، و تزرع الآمال في النفوس و تؤكد أحاسيس الانتماء و علاقات التضامن بين الأفراد ..

المعايدة

و قد اعتاد المسلمون تحية بعضهم البعض فور انتهائهم من أداء صلاة العيد، حيث يقوم كل مسلم بمصافحة المسلم قائلاً “تقبل الله منا ومنك” و”كل عام وأنتم بخير”، واعتادوا على زيارة أقاربهم ومعايدتهم.

العيد الكبير : جدل التسمية

تستوقفنا التسمية الشعبية لعيد الاضحى بالعيد الكبير ، فهل صفة  كبير هي  بالمقابلة مع العيد الصغير الذي هو عيد الفطر، أم هم كبير لأنه يتميز و ينفرد  بذبح الأضحية ،  أم هو كبير لان فيه يتم التكبير تعظيما للخالق  ..

 يلعب عيد الأضحى العيد الكبير دور مهما و مكانة خاصة بين الأعياد الأخرى ، و نجد في عدد من المصادر  أن له أسماء مختلفة منها: يوم النحر، والعيد الكبير، وعيد الحجاج ..  و قد يكون حجم العيد مرتبطا بخصب المواسم ، حيث تقدم الأضاحي شكرا لله على الخصب و على وفرة محصول الموسم ، و كزكاة سنوية يتم التصدق بها على الفقراء والمحتاجين من أبناء المجتمع  .

يسمى العيد الكبير في كل من فلسطين والأردن ولبنان ومصر والمغرب وتونس والعراق وليبيا والجزائر والسودان وسوريا.

 ويسمى عيد الحجاج في البحرين، وعيد القربان في إيران ،  وفي تركيا يسمى قربان بيرمو.

ارتباط الطقوس : العيد و الحج 

يرتبط  العيد الكبير بطقس ديني آخر وهو حج المسلم إلى بيت الله الحرام و تأديته لشعائره ، فعيد الأضحى يكون يوم العاشر من ذي الحجة ، حيث ينهي الحجيج مناسكهم قبله بيوم واحد ، و تكون ذروة هذه المناسك يوم التاسع من الشهر نفسه  الذي يصعد فيه الحجاج إلى جبل عرفات.

في أول أيام العيد يقوم الحجاج  في “منى” بتقديم الأضحيات لوجه الله تعالى  ، ومعهم باقي  المسلمين في كافة بقاع الأرض ، من هنا كانت تسمية هذا العيد بعيد الأضحى ، ارتباطا بتقديم الحجاج للأضاحي  تيمنا بالنبي إبراهيم الذي صدق الرؤيا التي أمره الله فيها بذبح ابنه إسماعيل والذي افتداه الله بكبش عظيم.

العيد الكبير : طقوس و احتفالات

 بمناسبة عيد الأضحى المبارك كان المغاربة يحرصون  على الحفاظ على طقوس و عادات هذه المناسبة الكبيرة التي يفرح لها الجميع كبارا و صغارا  ..

 ففي صبيحة يوم العيد يتوجه الناس صوب المساجد والمصليات لأداء صلاة العيد ،مرتدين الزي التقليدي المغربي المكون من الجلباب و”البلغة” ،قبل أن يعودوا الى منازلهم لمباشرة نحر الأضحية ..

و تقوم النساء  بتنظيف الذبيحة لإعداد طعام الغداء الذي يكون غالبا عبارة  عن قضبان من الكبد و الشحم أو ما يسمى ب”بولفاف”، و طبق أحشاء الذبيحة( التقلية)، بالإضافة إلى توزيع كؤوس الشاي.

و هناك عدة مظاهر احتفالية في طريقها إلى الاندثار، بل نلاحظ أنها اختفت نهائيا من بعض المناطق ،  منها عادة تراثية كانت تدخل الفرح إلى قلوب الساكنة ، يقول عنها أحد الباحثين أنها  انطلقت من سوس والجنوب يطلق عليها “بيلماون أو بوجلود” أو “السبع بو البطاين”، وتقوم على لف أحد الأشخاص نفسه بجلود الماعز أو الخرفان، ويحفه العشرات من الأطفال، حيث يجوبون الشوارع ، ومرددين بعض الأهازيج الشعبية التي تتميز بها منطقتهم، ثم يطوفون على الأهالي الذين يتصدقون عليهم ببعض المال أو جلود الأضاحي، إلا أن هذه العادات وأن كانت لا تزل حاضرة في بعض المناطق، إلا أنها بدأت تسير نحو الانقراض :

<<يفسح هذا النوع من الاحتفالات  المجال أمام شباب الحي لإبراز مواهبهم، إضافة إلى إهداء الفرجة لساكنة الحي المتعطشة للأنشطة الثقافية والاجتماعية.

بتقنية عالية يتم تخيط الجلود من طرف شخص له تجربة في ذلك، إذ يقوم في الغالب بجمع 6 إلى 7 جلود، ليشكل بها لباس موحد، كمايتم سلخ جلد رأس الماعز لكي يحافظ على شكله ليتألم مع وجه “بوجلود” في شكل متناسق.>>

مباشرة بعد صلاة العصر، ثاني أيام عيد الأضحى، تبدأ أفراد فرقة “بوجلود” في الانطلاق، للتجوال في دروب الأحياء السكنية، وتتكون المجموعة من أكثر من 20 شخصا، بعضهم يدق الطبول” وفق ضربات متتالية محدثا لحنا شبيها بالألحان الإفريقية الصادحة،و تستمر الاحتفالات إلى ساعات متأخرة من الليل، وسط تجمع كبير للساكنة، الذين حجوا من مختلف مناطق المجاورة للمدينة.

يقول أحد طلبتنا الباحثين  عن منطقته  :

عيد الأضحى بدون بوجلود فرحة ناقصة بالنسبة إلى ساكنة إيمي ن تانوت .

إن فلكلور بوجلود له مكانة خاصة لدى الأمازيغ ويشكل مصدر سعادة وبهجة، أثناء الاستمتاع باللوحات التي تقدم في كل عشية من الأيام الأربعة التي توالي عيد الأضحى، لذا وجب المحافظة عليه، وفي أصله هو نشر الفرحة والسرور وجمع المال من أجل أهداف خيرية وكشكل فرجوي مغربي.

 “بيلماون” من الطقوس الاحتفالية الأمازيغية العريقة، التي تعكس فنا فرجوياً يتقمص فيه الإنسان أدوارا حيوانية وغرائبية، وهو فرجة شعبية تمتد بجذورها في عمق التاريخ القديم، وإن كانت قد ارتبطت في المرحلة الإسلامية بأضحية العيد، حيث يلتقي فيها معنى القربان بمعنى التقمص والتمثيل والتعبير الشعبي عن مزيج من المعتقدات الشعبية والأساطير. >>

العيد و الشعر

تغنى الشعراء بالعيد وهم تتوزعهم مشاعر الفرح أو الحزن ..فيتساءل المتنبي عن ما سيأتي به العيد من جديد، وهل من معنى للعيد في غياب الأحباب وبعيدا عنهم ،  متسائلا باستنكار :

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر ما فيك تجديد؟

أما الأحبة فالبيداء دونهم

فليت دونك بيد بعدها بيد

بالنسبة للشاعر العيد لم يأت بجديد فحالة الغربة هي هي ، و الأحباب في غياب، والأقارب صاروا أباعد بينهم صحاري وقفار، فما العمل بالعيد و ما دلالته على الجديد ، إنه بهذا المعنى  عند الشاعر يوم عادي   يعلوه غبار الرتابة كغيره  ..

أما شاعر المهجر فيتخذ عنده العيد طابعا فلسفيا يدعو إلى التأمل في معناه وتدبر في أحوال الناس ، فلا معنى للعيد خارج دائرة الفرح الجماعي ..

فهو يتأمل حال الناس و قد أتى العيد و لم يجلب معه الفرح و السرور:

أقبل العيد و لكن

ليس في الناس المسرة

لا أرى إلا وجوها

كالحات مكفهرة

تحذر الضحك كأن

الضحك جمرة

العيد و الواقع الاجتماعي :

في حين يتحدث اليا أبوماضي في قصيدته ـ ابتسم ـ عن العيد من جانب آخر ، جانب التكاليف التي يفرضها على المستضعفين في الأرض ، فالعيد  أقبل بمتطلباته و ما يلزمه من إنفاق على الأهل و الأبناء ، و هذه المطالب و الحاجات   تعترض و تحول  دون الفرح ـ  حيث أن وضعية الشاعر المالية لا تسمح له بمواكبة أجواء العيد .. فكف الشاعر لا تملك درهما كما يقول :

قال المواسم قد بدت أعلامها

و تعرضت لي في الملابس و الدمى

و لي على الأحباب حق واجب

لكن كفي ليس تملك درهما

خاتمة :

لا يهم حجم العيد إن كان صغيرا أو كبير ، المهم استعادة روح الفرح و التضامن الجماعي و العناية بالفقراء و المحتاجين ، والحفاظ على الطبيعة الأصلية للاحتفالات المصاحب للأعياد دون عصرنة ضارة ، والعودة إلى اللمة و الاجتماع العائلي التي ضعف كثيرا بفعل الظروف الاقتصادية القاهرة التي أصبح يعيشها المواطن سواء من حيث تكاليف الحياة و طبيعة السكن و الأسر النووية و تأثير وساءل الإعلام و الحياة الافتراضية و الرقمنة  و البحث عن الربح السريع  و ما إلى ذلك  ، مما قد يفقد العيد الكثير من معانيه الإنسانية و قد يفقده روحه الحقيقية في السنوات المقبلة من يدري ؟؟؟..

* كاتب من أسرة “كش بريس”

‏مقالات ذات صلة

Back to top button