فنون وثقافةلحظة تفكير

د. م علي الخامري : أين يكمن الفرق في الحديث عن مباحث إيقاع قصيدة الملحون والحديث عما بقي من مضامينه ومواضيعه ؟ 

د. م علي الخامري : أين يكمن الفرق في الحديث عن مباحث إيقاع قصيدة الملحون والحديث عما بقي من مضامينه ومواضيعه ؟ 

هذه الثنائية الملاحظة في العنوان في الحديث عن إيقاع الملحون ، والحديث عن بقية مواضيعه بصفة اليقين والمماثلة تطرح إشكالا عريضا ، يجهله أو يتجاهله جل المتدخلين بسبب عدم إدراكهم لتلك الفروقات القائمة بين المنحيين المذكورين ، وبعبارة السؤال نقول : هل تجوز المزاوجة بينهما على نمط واحد في ميزان العلم والبحث ؟ .

وهل ما يُتَوَصَّلُ إليه بنبرة الصحة والجزم في المضامين الخارجة عن الإيقاع يصلح للتعميم بالصفة ذاتها على ما يخص الإيقاع ؟ .

وهل يقاس الحديث الأول عن الثاني ، أو العكس ؟ .

وهل ينبغي الاحتياط في مجال الإيقاع من جهة ادعاءات اليقين مقارنة ببقية المواضيع ؟ .

كل هذه الأسئلة مشروعة ، وتحاصر جهود  المطلع والباحث ، وأسبابها متعددة ومتنوعة ، على رأسها ما يلاحظ على مسرح البحوث والمؤلفات المنجزة من طرف أهل البحث الحقيقيين وإلى يومنا ، فهي تتشابه إن لم تكن تتكرر في خاصية الإيقاع تحديدا ، على عكس ما يزعمه بعض الصغار حين يَدَّعُون ما يَدَّعُونه من إلمام وجزم وفتح للمعضلة الإيقاعية داخل شعر الملحون .

وكلمة المعضلة لا تعني الفراغ ، ولا عدم الإدراك ، وإنما تعني عدم الإحاطة بالصورة النهائية الفاصلة بين تشكيلات الإيقاع بوضوح ، تُوَحِّدُ أهل الملحون ، وتجمعهم على وسائل  مدركة في التَمَثُّلِ والفهم من لدن الجميع ، تُتَّخَذ بوتيرة واحدة وموحدة لدى الشيخ الشاعر والمنشد والقراء وجمهور العاشقين والمهتمين ، وتطرد كل المغاليق والغموض والاختلاف المشاهد في حضيرة الملحون وإلى الآن ، وتتحول وكأنها المفتاح الوحيد الذي يلجأ إليه كل متعامل مع الفن المذكور لتحقيق الولوج الآمن ، والمعرفة المطمئنة ، والحوار الجامع المبني على تبادل المواقف والرؤى ، والسعي إلى التطوير  ، والرغبة في الاجتهاد . 

شخصيا لا زلت أَهَابُ وأتهَيَّبُ الحديث عن إيقاع الملحون باليقين المطلوب ، وبنزعة المُتَمَكِّنِ المغرور ، وأُحَرِّم على نفسي الخوض فيه إلى ما بعد الحدود المعلومة والمتداولة بين أهله ، وهذا ليس جهلا ولا ضعفا ، وإنما هو احترام لموقف خاص بي ، يطالبني بالتريث دائما عند الحديث عن إيقاع الملحون ، ويراعي المعطيات العلمية السائدة في الموضوع في الماضي والحاضر .

من بين دواعي موقفي أنني أجد الأسماء الكبرى في مجال البحث عن إيقاع القصيدة كمحمد الفاسي وعباس الجراري وأحمد سهوم لم يأتوا بجديد مُمَيِّزٍ ومُمَيَّز فيما بينهم ، فالكلام في مؤلفاتهم عام ، والمعالجة تكاد تكون واحدة ، والاختلاف الملاحظ عندهم يرجع إما إلى الصيغة المصطلحية ، أو إلى خطوات النهج المتبع في كتبهم ، وإما إلى الرؤية الشخصية المتحكمة في إدراكهم ، وأستغرب هنا كثيرا لموقف الشاعر الفحل أحمد سهوم ، فقريحته الشعرية ، وذوقه الفطري الأصيل ، وتنقله المتعدد بين حواضر الملحون ، ومزاولته الطويلة للكتابة الإبداعية ، وإلمامه الواسع بقضاياه….. كل ذلك كان سيؤهله لفك بعض الطلاسم ، وسيسعفه على الكلام بشكل أوضح وأدق وأيسر ، وسيسعى لتمكين الجمهور والعشاق من إضاءات كثيرة لجوانب المعضلة الملاحظة في إيقاع قصيدة الملحون ، وقد روى لي أحد الشعراء مؤخرا ، وكان له اتصال بالحاج سهوم حتى آخر حياته أنه صرح له : أن الله لم يرزقه الموهبة اللازمة للخوض في  مجال الإيقاع .

وبالعودة إلى المسألة سنلاحظ أن من دواعي هذا الوضع المتداخل اختلافَ سبل  المقارنات ، وحتى طرق التعبير والترميز والتقعيد تبقى مُوغِلة في الذاتية ، ومغلقة في الأفكار ، وكأن الباحثين يكتبون ويتحاورون مع أنفسهم فقط مما تسبب في نشوء واستمرار تلك المعضلة وبقائها مشوشة في الأذهان ، ولم نستطع لحد الآن أن نفرق بين المسموح به في كيفيةالإدراك والمعالجة والجزم أثناء الحديث عن قضايا الملحون الفكرية مثلا ، وغير المسموح به ، أو ما ينبغي استبعاده في الحديث عن الإيقاع الذي يقتضي أمورا كثيرة مفقودة في الوسط الآن ، يقع عليها الإجماع العلمي بأدوات ووسائل البحث الضامنة للإدراك والوضوح  للوصول إلى مرتبة اليقين والجزم ، فمثلا نحن لا نلتقي إلا في التسميات العامة ، أما المكونات الفارقة والمميزة لكل قسم من أقسام الإيقاع في أوصافه وصفاته الكلية ، فهنا يبرز الخلل ، ويحصل الاصطدام بين المواقف  والرؤى الذاتية ، ونتصادف مع الكلام المكرور الذي لا يُبِين ، ولا يفصح بآليات العلم ووسائل المنهج المسعفة عن التَمَثُّلِ والإدراك لمسألة الإيقاع في قصيدة الملحون .

والالتباس قائم وسيبقى ما دمنا لم نستطع جمع واستقصاء كل نصوص الملحون ، وما دمنا نكتفي في تحديد الإيقاع بالقول المأثور : القصيدة ( ب ) على قياس قصيدة ( ا ) دون تحديد عوامل الزمان ، ودون العثور على قواسم العملية الإبداعية على طول تاريخ  الملحون ، وفي أسسها المُؤَسِّسة كما قلت ، فالقول المأثور لا نعرف مَن تفوه به أولا ، وجعله مقياسا عاما وشفويا ، يستمد ماهيته من الطبع والذوق والذات ، ويستند في حضوره على الرواية الشفهية الواسعة التي تمكنت من أهل الملحون ، مع العلم أن كل كلام تغلب عليه الصفة الذاتية يبقى خاصا بصاحبه حتى وإن كان صائبا ، وفي الملحون ومع توالي الأيام تحول إلى قواعد شفوية ، تتردد على كل الشفاه ، ويرتاح إليها أصحابها ، وربما تدركها فئة صغيرة في أشكال وقصائد محدودة جدا ، تبعا لما يروج في الملحون على مستوى الإنشاد ، فهو قلة قليلة متحكمة في التكرار والأحكام المشاهدة .

وكذلك الأمر في معنى الزمان ، وبتعبير آخر : هل القصيدة ( ب ) يشترط في زمنها وصاحبها أن يتأخر عن زمن وصاحب القصيدة المقيس عليها ( أ ) ؟ ! .

هذا مثل بسيط يتسبب في إرباك مضامين البحث في إيقاع قصيدة الملحون ، وبدوري لا أعرف لأن القول الجزم هنا يقتضي بحثا طويلا ومعمقا ، وسيُوصِلُنا إن نحن أقمناه على أسس البحث الرصينة إلى نتيجة مفيدة ، تساعدنا على القضاء على تلك المعضلة ، وتمنحنا فرصة تأسيس إيقاع قصيدة الملحون على رؤى واضحة ومفهومة ، وهذا لا يمكن في هذه اللحظة ، فلا أحد يتوفر على خريطة كاملة وصحيحة ، تجمع شتات الملحون من أهله وفي أزمنته وحواضره المتعددة ، وطبوعه المختلفة ، والأكثر والأهم هو الإحاطة بمعالم رحلته التاريخية الطويلة .

كثير من المتكلمين على قصيدة الملحون يبرعون ويطيلون في الكلام على المسميات المعروفة للقاصي والداني ، ويعتبرونها بحورا لقصيدة الملحون ، ويحصرونها في الأسماء المشهورة : مكسور لجناح ، ولمشتب ، ولمبيت والسوسي…… ويختلفون حول العدد النهائي هل هو ثلاثة أو أربعة أو خمسة……. ويتعاركون في ادعاء المعرفة والتفاصيل واليقين…….ولكن عندما تسألهم عن المصطلحات الإيقاعية المميزة لكل طراز ، وتطلب منهم التحديد العلمي الواجب  يصمتون ، ويهمهمون بكلام نظري متشابه ، وبإحالات ترجع بنا إلى ماقيل في الموضوع بصيغ يغلب عليها التكرار والإبهام وعدم الإدراك .

ويظهر لي ومن خلال ما ألاحظه أن هذا التخبط قد تحكمت فيه قواعد الشفهية ، والاعتماد على تموجات الصوت في التحديد ، على اعتبار أن شعر الملحون يخطع لطبوع الإنشاد ، وتغلب عليه في التقييم إلى درجة أن الكثير من أهل الملحون لا يفرقون بين الإيقاع بمفهومه العقلي والفكري ، وبين طبوع الموسيقى أو قوالب الإنشاد ، وقد جالست العديد منهم ، وطرحت عليهم سؤال الإيقاع ، فكان جوابهم هو الإدلاء بمصطلحات الإنشاد الموسيقي ، وهناك من الموسيقيين من يخاطب المنشد قبل البدء ويقول : أصفهان أو بياتي مثلا ، إشارة إلى الطبع الموسيقي الذي يريده ، ويتماشى مع القصيدة المنشودة ، وهذا  خلط إن كان يتلاءم مع الطبع الموسيقي ويجليه فإنه لا يحل مشكل الإيقاع العام لقصيدة الملحون ، ولا يحدد المقصود المراد ، ولاسيما في الجزئيات المتشابهة والمحددة للنوع ، ثم أصبح الأمر متوارثا بسليقة صوتية صرفة ، وتجارب مكررة ومتبعة من طرف أجيال المبدعين المتتالية دون أن نتمكن لحد الآن من ترجمة تلك المعطيات الصوتية إلى قواعد مكتوبة ومحددة ، وهو واقع يشاهد في الاختلافات الصارخة لدى الحديث عن الإيقاع ما بين كل باحث وآخر ، وقد تجد تفاوتا شديدا بين التعبير بالأرقام والمعادلات الرياضية وبين الاكتفاء بالشرح اللغوي الواصف .

ومن الآفات الناتجة عن هذا الوضع أن أغلب الشعراء المعاصرين إن لم يكن كلهم يفتقدون للنفَس الإيقاعي المتغير والمتجدد ، فقصائدهم ودواوينهم فقيرة جدا من هذه الناحية ، والسبب أن النماذج التي ينسجون على منوالها محدودة ومحصورة في بضع قصائد محفوظاتهم ومعرفتهم وميولاتهم ، وما توارثوه بفعل قوة الرواج المتحكمة والضيقة على صعيد الإنشاد ، وتزداد دائرتها في الانحسار والضيق يوما بعد يوم ، ويكثر فيها الاختصار والنسخ والسلخ المبالغ فيه ، لأن شعراءنا المعاصرين قليلو البضاعة والتجربة كغيرهم من أهل الاهتمام بالملحون ، ولا يكلفون أنفسهم عناء الاكتشاف والتساؤل المشروع إزاء إيقاع قصيدة الملحون  .

وهم عند النظر الفاحص والعادل ومن زاويا  الإيقاع المنتشر والمتحكم غيرُ مَلُومِين ، وغيرُ مسؤولين عن الوضع الذي أُنبِت في الأرض قبل مجيئهم ، وتوارثوه بصيغة التكرار الشفوي ،  والحال أن الموقف منهم كان ينبغي أن يسير في اتحاه مخالف ، يمكنهم من توسيع مداركهم ، والتفكير في الحلول الممكنة لمعضلة الإيقاع ، فهم مميزون عنا بقرائحهم وذوقهم وطبعهم وممارساتهم اليومية لمشاق الإبداع ، وأكيد أنهم يعانون ، ويكابدون ، ويكتبون ويمحون ويعيدون ، ويرمون بالقلم والأوراق ، ويلعنون الشيطان ، ويصيبهم صداع الرأس ودوران الجسد ، وتغلق عليهم الأبواب ، ويشعرون بالتيهان والإحباط…..وبما أنهم مبدعون تعود لهم حالة الرشد فيكتبون وينجحون في النهاية ، ويختصرون الكتابة في الفهم العام المتحكم في أشكال القصيد الرائج ، وهذا هو عيبهم وعيبنا أو لنقل بلغة خفيفة وبلسان رطب إنه حظهم وحظنا وحظ قصيدة الملحون التي تبقى ومع كل ما ذكر شامخة وباسقة ومثمرة ، وقابلة للفهم والإدراك بطرق فنية وعلمية ، تضيء عتمتها ، وتمكنها من الانتشار والتأثير بشكل أكثر وأكبر .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button