
دخلت المنطقة المشتعلة بالشرق مرحلة المنازلة الكبرى بين “إسرائيل” وإيران. هي معركة اختبار الإرادات، وكسر العظام.
استعمل كل طرف ما يمتلك من قوة، وأعتقد أن من ينتظر تدخلا أمريكيا لا يعرف أنها حرب أمريكية، فالرئيس دولند ترامب، كان يقول إنه لا علاقة بالهجوم المتوقع، لكن بعد أن وقع وظهرت له نتائج كبيرة، إذ تم اغتيال العديد من القيادات الإيرانية والهجوم على مفاعلي نطنز وفوردو، عاد ترامب ليتحدث عن الضربة الموجعة، وأن إيران ستتلقى أرعب منها، وكشف عن تزويد تل أبيب بأسلحة فتاكة وهي في الطريق، كان يسابق ألا يفوز نتنياهو وحده بالنصر.
بعد الضربة الإيرانية المضادة لم يظهر على منصته بإكس واختفى إلى أن تم الإعلان عن اتصالات أجراها مع زعماء عرب، وتأكد الطلب من الشيخ تميم التوسط لإنهاء المنازلة، التي لا يعلم أحد إلى أين يمكن أن تصل.
منازلة تحضر فيها كل الرموز التاريخية كما تعمل فيها عملها. من حيث الرموز ظهرت صورة لنتنياهو وهو يضع اسم العملية “الأسد الصاعد” في حائط المبكى. إيران ختمت موجة الصواريخ بإرسال طائرات مسيرة تحمل اسم “آرش”. في الختام أشرح ماذا تعني.
في الجغرافية هناك عوامل مساعدة لكل طرف وعوامل ضده.
أمام “إسرائيل” جغرافية منتهكة من قبل الأمريكي حيث يفتح المجال الجوي أمامها لمهاجمة إيران، ويشمل الأردن والعراق وسوريا ولبنان، ويغلقه في الاتجاه المعاكس.
إسرائيل جغرافيتها صغيرة للغاية تبدو كتكنة مغلقة أمام العالم، لهذا أي خرق أو اختراق يعتبر صعبا، لهذا أطلقت إيران على عملية “جلب” آلاف الوثائق الاستخباراتية من تل أبيب بالعملية التاريخية، بينما في المقابل تمثل إيران قارة بأكملها مجاورة لبعض الدول التي يمكن أن تكون مصدرا للتهديد، إذ لا يستبعد مهتمون أن تكون عمليات الاغتيال تمت من أسلحة تم تركيزها في الداخل عبر عملاء.
لكن الجغرافية الممتدة أيضا مهمة في المعركة، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال توجيه ضربة قاصمة لإيران، التي تتعدد مواقع وجود أسلحتها. يمكن أن تهاجم طهران ليتلقى هجوما من أصفهان أو من أي موقع آخر في هذه الجغرافية الممتدة، بينما الهجوم الإيراني جعل “إسرائيل” تحت النار.
المنازلة الكبرى، التي بدأتها “إسرائيل”، لها أهداف مختلفة. لطالما تهربت إيران من المواجهة، بينما لطالما تمناها نتنياهو، لكن كان يريدها أمريكية.
الهدف الأمريكي، الذي لم يكن معلنا وأفصح عنه ترامب، هو تركيع طهران حتى تتنازل خلال المفاوضات حول الملف النووي.
الهدف الإسرائيلي، هو توجيه ضربة قاصمة للمشروع النووي الإيراني، لا خوفا من صناعة السلاح النووي كما يقولون، ولكن اقتدار هذا البلد ينعكس إيجابا على حركات المقاومة، وإلا لماذا لا تتم مواجهة الهند وباكستان اللتين تمتلكان قنبلة نووية؟
الهدف الإيراني، هو خلق معادلة جديدة، قوامها أن الغرب لا يحترمك إن لم تكن قويا. والمضحك أن بعض المحللين ينقلون نتائج المواجهة من وسائل الإعلام ليبنوا عليها خلاصات. والخلاصة الحقيقية هي أن إيران لم تستسلم واستوعبت الضربة وردت بقوة لم يكن “الإسرائيلي” ينتظرها، وفق تصريحات عديدة.
لقد تمكنت إيران من حشر #اسراءيل في الزاوية الضيقة. لا الأمريكي مستعد للدخول إلى الحرب بعد هزيمته أمام اليمن، ولا القانون الدولي، الذي ينفذ حتما على الضعفاء، في صفه. ظهرت إسرائيل دولة مارقة تخرق القانون الدولي بينما إيران في حالة دفاع عن النفس وحق الرد.
وهنا نجيب على السؤال: ماذا يربح العرب أو يخسرون من هذه المنازلة؟
أعتقد أن الرأي الذي يرى في انتصار “إسرائيل” في هذه المنازلة سيكون ربحا للعرب مخطئ بغض النظر عن الموقف من إيران. إذا استقوى الكيان لم تعد هناك حاجة إلى دول الجوار. بدليل أنه في عهد الشاه كان المخاطب الكبير المسمى “دركي المنطقة”. خصوم إيران يمتلكون قيمة لدى الأمريكي بوجود هذا التوازن في الإرادات.
“إسرائيل” لا تهتم بمن كان ضعيفا، حتى لو منحها كل ما تريد، وكذلك أمريكا. أيام سوريا الأسد ورفض التوقيع على “وديعة رابين”، كانت واشنطن تستثمر كثيرا في إيجاد تسوية وكانت الزيارات المكوكية للمسؤولين الأمريكيين إلى دمشق لا تتوقف. رفض الخضوع هو الذي قاد الحرب الكونية ضد سوريا التي تم تتويجها بعد 14 سنة بتمكين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة / فرع تنظيم القاعدة) من السلطة بدمشق.
دليلنا هنا على أن أمريكا و”إسرائيل” لا تهتم بالضعيف والمستسلم هو أن الجولاني، ورغم تعدد مخاطباته الموجهة للعدو بأنه مستعد لكل التسويات، ورغم أنه أعلن أنه أخرج إيران وح.الله من سوريا وقطع خطوط إمداد المقاومة، لم يلتفت إليه أحد وتم وضع ملفه في رف الانتظار.
الجلوس إلى طاولة الحوار مع طهران، أو المنازلة الحالية، هي نتيجة للاقتدار. هذا الاقتدار كان كثير من المثقفين يسميه المسرحية. وتبين اليوم أن مسرحية بأشخاص لا شخوص، حيث عنوان الدم والاقتتال الحقيقي.
وفي النهاية أذكر بتسمية المسيرة الإيرانية “آرش”. هذه التسمية أعتقد لها دلالة رمزية. فرغم تزامن المنازلة مع عيد “الغدير” ويسمى “العيد الأكبر” عند الشيعة، غير أن هذه التسمية من التاريخ السحيق لإيران.
” آرش كمانگير”، أسطورة إيرانية قديمة، تتحدث عن شخص اسمه “آرش” كرمز للتضحية. وفي مضمونها مختصرا جدا، ان إحدى القوى العظمى حينها، هاجمت بلاد فارس ووصلت إلى عاصمة البلاد، واشترطت إعادة رسم الحدود أو الحرب. ويتم إعادة رسم الحدود بمنح شخص واحد فرصة رمي سهم وأينما سقط السهم فتم حدود البلد الجديدة.
” آرش كمانگير”، تعني “آرش رامي القوس”. الذي خرج من وسط قال “أنا”.
وتم تحديد الوقت في الغد. صعد ليلها إلى الجبل وبات يطلب الإله أن يرزقه القوة. في الصباح صعد إلى الجبل ومعه القوس. رمى ولم يتوقف القوس إلى بعد ساعات طويلة. ولما صعدوا إلى الجبل لم يجدوا “آرش”. لقد ربط نفسه مع السهم وطار به. وبقي رمزا دالا على التضحية. وهكذا بالنسبة للإيراني ترسم المسيرة “آرش” حدود البلاد في الجغرافية السياسية.