‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د جمال ايت لعضام: الحرب الإسرائيلية – الإيرانية: مقاربة تحليلية

ـ في إطار نظرية توازن القوى وتغيرات الردع الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ

يعيش الشرق الأوسط حالياً واحدة من أخطر الأوضاع وأكثرها توتراً في العالم العربي، حيث تتركز الأنظار على تحول جذري في التوازن العسكري بين إيران وإسرائيل. ومن المعروف أن الولايات المتحدة قد نسجت لعبة “الحرب بالوكالة” كوسيلة لمواجهة وضرب إيران، بهدف إعادة تشكيل مفهوم جديد في العلاقات الدولية، وخاصة فيما يتعلق بتجديد الحلفاء الاستراتيجيين.

وبناءً على ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية–الإيرانية التي بدأت في منتصف عام 2025 تمثل واحدة من أبرز التحولات في النظام الإقليمي للشرق الأوسط منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، فقد انتقلت اللهجة التصعيدية المستمرة بين طهران وتل أبيب من ساحات الحروب بالوكالة إلى مواجهات مباشرة وغير مسبوقة، مما يعكس تغييرات جذرية في طبيعة النظام السياسي في منطقة الشرق الأوسط.

في هذا المقال، سأستند إلى مقاربات العلاقات الدولية لتحليل هذه الحرب بعيدًا عن المنابر الإعلامية، مع التركيز على مفهومي الردع النووي وتوازن القوى، بالإضافة إلى تداعيات الحرب على شمال أفريقيا.

 أولًا: التصعيد الإسرائيلي–الإيراني كحالة صراع بنيوي

 يُعتبر التصعيد بين إيران وإسرائيل صراعًا بنيويًا من حيث طبيعته ومحدداته الجيوسياسية. فبعد الثورة الإسلامية، تبنت إيران رؤية أيديولوجية-سيادية تستبعد إسرائيل كفاعل استراتيجي في المنطقة، من جهة أخرى، تعتبر إسرائيل إيران تهديدًا وجوديًا، خاصة بعد أن حقق البرنامج النووي الإيراني تقدمًا ملحوظًا بفضل تعاونها مع أعداء الولايات المتحدة الأمريكية مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية.

 ومن منظور نظريات العلاقات الدولية، يمكن تصنيف الصراع على أنه صراع “صعود قوة مهددة”  Threatening power  كما وصفه جون ميرشايمر في إطار النظرية الواقعية الهجومية (Offensive  Realism) .

 تسعى إسرائيل دائمًا للحفاظ على مكانتها كقوة مهيمنة في المنطقة، بينما تسعى إيران إلى تعديل ميزان القوى لصالحها من خلال استخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة، مثل برنامجها النووي والميليشيات والنفوذ الديني والسياسي، كل هذه العوامل أدت إلى تصعيد التوترات وتحويل المواجهة إلى حرب إقليمية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

ثانيًا: منطق الحرب الاستباقية والردع المقلوب والمضاد

1. الضربات الإسرائيلية كتعزيز للعقيدة الاستباقية

 تشير الضربات الإسرائيلية الأخيرة إلى تفعيل واضح “لعقيدة بيغن” Begin Doctrine  والتي ترسخت بعد استهداف مفاعل أوزيراك العراقي عام 1981، ثم تكررت لاحقًا في سوريا عام 2007، هذه العقيدة تتيح تنفيذ ضربات استباقية لمنع ما تعتبره تهديدًا وجوديًا نوويًا، ولكن الجديد في الأمر هو اتساع نطاق العمليات العسكرية المتكررة ووضوح الرسالة: لم تعد إسرائيل تقبل بفكرة “تأجيل” المواجهة، بالإضافة إلى ذلك، تم نزع الضمانات العسكرية الأمريكية الاستثنائية في حال حدوث تغييرات في موازين القوة العسكرية.

2- تحول في مفهوم الردع النووي من التوازن إلى الاستباق

على عكس الردع النووي التقليدي الذي يعتمد على توازن الخوف (Mutual Assured Destruction ) فإن العلاقة بين إسرائيل وإيران تتميز بردع غير متكافئ. فبينما لا تمتلك إيران سلاحًا نوويًا معلنًا، فإنها تقترب من تحقيق ذلك، مما يخلق “فراغًا ردعيًا” يتيح لإسرائيل التصعيد تحت ذريعة منع إيران من تطوير قدراتها النووية، هذه الفرضية تستند إلى آراء الخبراء الاستراتيجيين والمتخصصين في السياسة الخارجية الإيرانية الذين يؤكدون على عدم امتلاك إيران سلاحًا نوويًا معلنًا. يمكن القول إن هذا التحول والتصعيد العسكري يعيدنا إلى مقولة توماس شيلينغ: “الردع فعّال فقط عندما لا يُختبر”، بمعنى آخر، اختارت إسرائيل الوقت والظروف المناسبة لاختبار الردع الإيراني من خلال تنفيذ ضربات عسكرية استباقية، مدفوعة بتقديرات استخباراتية غير متوقعة وغير دقيقة تفيد بأن إيران لن ترد برد شامل ومستمر.

ثالثًا: الحرب غير المتكافئة والحدود الاستراتيجية للمواجهة

على الرغم من رد طهران باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة، إلا أن طبيعة هذا الرد كانت محدودة وتجنبت الدخول في مواجهة مباشرة واسعة النطاق. وهذا يدل على أن إيران لا تزال تعتمد على “نظرية الوكيل” (Proxy Doctrine ) وتسعى لتفادي خسائر مباشرة متعددة حتى الآن، ومع ذلك، إذا استمرت المواجهة، فمن المحتمل أن تتغير استراتيجيات الرد بشكل كبير. تكمن المشكلة الأساسية هنا في أن إسرائيل لم تعد تخشى ميليشيات إيران، بل أصبحت تعتبر رأس النظام الإيراني نفسه – العسكري والعلمي – هدفًا مشروعًا، مما يجعل الحرب غير المتكافئة تتحول إلى صدام مباشر من العيار الثقيل، مما يهدد منطقة الشرق الأوسط بتحولات نوعية قد تؤثر على مسار العلاقات الدولية في المنطقة العربية بشكل عام، وخاصة فيما يتعلق بتجديد التحالفات الاستراتيجية.

رابعًا: الرموز الجيوسياسية للحرب وتغير ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط

1. تآكل الردع الإيراني: لحظة “ميزان قوى سلبي”  

كشفت الحرب عن ضعف القدرة الإيرانية على الردع، خاصةً خلال الضربات الإسرائيلية التي عطلت جميع الرادارات العسكرية، على الرغم من كثافة الخطاب الإيراني، إن الفشل في الرد الحاسم يعكس خللاً في ما يُفترض أنه “قوة صاعدة”، مما يجعلها أقرب إلى قوة محاصرة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.

2. تعزيز التوازن لصالح إسرائيل: تصدير الهيمنة تحت غطاء الدفاع

على عكس التحليلات الجيوسياسية والأمنية التي تعتبر الحرب مجازفة من جانب إسرائيل، تشير المؤشرات إلى أن تل أبيب تسعى لاستباق “لحظة التوازن” مع إيران من خلال خلق ما يُعرف بـ “الاختلال الاستراتيجي الدائم”  (Permanent Strategic Asymmetry) ، هذا النهج يهدف إلى إعادة تثبيت مكانة إسرائيل كقوة إقليمية وحيدة تمتلك القدرة على الردع الفعلي، وقد أكد خبراء السياسة الخارجية الإسرائيلية أن هذه المجازفة قد تضع إسرائيل في دائرة من الخيارات والتنازلات العسكرية.

خامسًا: تأثيرات الحرب الجيوستراتيجية على شمال إفريقيا

على الرغم من البعد الجغرافي، فإن الحرب الحالية تترك آثارًا جيوسياسية واقتصادية على شمال إفريقيا، وذلك على النحو التالي:

 1. اقتصاديًا: تفاقم هشاشة الطاقة والغذاء إن ارتفاع أسعار النفط نتيجة التوترات في الخليج، وخاصة في مضيق هرمز، يزيد من تكلفة الطاقة في الدول غير النفطية مثل المغرب وتونس وموريتانيا. وهذا الأمر يعمق فجوة العجز التجاري ويهدد الأمن الغذائي المرتبط باستيراد القمح والأسمدة.

  1. سياسيًا: تصدع التوازن بين القضايا الداخلية والدولية تعاني دول شمال إفريقيا من ضغوط داخلية، مما يجبرها على اتخاذ مواقف استباقية وحساسة، على سبيل المثال، تعزز الجزائر موقفها المناهض لإسرائيل، بينما يتسم المغرب بالتريث لتفادي التأثير على اتفاقيات أبراهام، قد تؤدي هذه التوترات والانعكاسات غير الواضحة إلى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية.
  2. أمنيا واستخباراتيًا: تصاعد خطر التسلل الراديكالي في حال تصاعدت الحرب من خلال حزب الله أو الحوثيين، قد تظهر موجات جديدة من تهريب الأسلحة أو عودة الجهاديين إلى الساحة، خاصة في مناطق هشة مثل ليبيا أو الساحل، هذا الوضع يدفع دول شمال إفريقيا، خصوصًا تلك الحدودية والعابرة للدول الأخرى، إلى إعادة تأهيل أنظمتها الأمنية والاستخباراتية لضمان سلامة حدودها البرية والبحرية.

خاتمة: نحو شرق أوسط ما بعد الردع؟

إن الحرب الإسرائيلية–الإيرانية ليست مجرد تصعيد تقليدي، بل تمثل بداية مرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية والجيوسياسية، في هذه المرحلة، تتلاشى صيغ الحرب بالوكالة، ويتم إعادة صياغة حدود الردع وتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط. من منظور نظرية العلاقات الدولية، يبدو أن النظام الإقليمي يتجه نحو قطبية أمنية تتمحور حول إسرائيل، بينما تتراجع القوة الإيرانية بشكل نسبي، مما يثير العديد من علامات الاستفهام حول المستقبل. في هذا السياق، يتعين على دول شمال إفريقيا متابعة التحولات الجارية بعناية، ليس فقط بسبب تأثيراتها الاقتصادية والجيوسياسية، ولكن أيضًا لما تتيحه هذه الحرب من فرص لإعادة بناء توازنات جديدة على الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية.
*جمال ايت لعضام
دكتور العلاقات الدولية و القانون الدولي،
بجامعة جلين تشانتشونغ الصين.
معهد الدراسات الاستراتيجية و العلاقات الدولية.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button