لحظة تفكير

د عبد العلي الودغيري*: مَن كان الغنيمةَ حقا يا كاتب ياسين؟ ( الحلقة الأولى)

ما أكثر سَدَنة المعبد الفرنكفونيّ الأُرثودُوكسيّ وشَمامِسَتَه الذين تشابَكت مصالحُهم بمصالحه، وارتبط وجودُهم ومصيرُهم بوجوده، وعاشوا كامل حياتَهم مجنَّدين في خدمته وتقديم القرابين لأعتابه. هؤلاء الأقنان لم يذوقوا طعم الحرية خارج مَحبسِهم يومًا من الأيام، فظلوا يَرسُفون تحت ثقل القيود التي وُضعت على رقابهم وأرجُلهم، إلى أن وجدوا أنفسَهم بعد طول انغلاق وانحباس، محرومين من نعمة الانفتاح على غير الفرنسية من اللغات الأخرى، بما فيها لغةُ أمّتهم الجامعة وحضارتهم المشتركة، وفرصةِ الاطلاع الجيد على ذخائرها وخبايا كنوزها الثمينة، والاستفادة من إمكانياتها الواسعة، و الوقوف على ما أفادت به الإنسانيةَ جمعاء، وما أسدَته للنهضة الغربية بالذات.

هؤلاء، لا غيرُهم، هم الذين ما زالوا يرفعون في كل المحافل والمناسبات، شعار محمد خلوطي المعروف بكاتب ياسين، الذي يقول فيه عن اللغة الفرنسية إنها ʺغنيمة حربʺ. لقد وجدوا في هذه الاستعارة الفضفاضة ضالّتَهم وذريعَتهم وكلمتَهم ʺالمُلهِمةʺ، فسرعان ما طاروا بها فرَحًا وهتَفُوا بها شِعارًا كلما وجدوا أنفسَهم مُرغَمين على الدفاع عن سلبيتهم واستلابهم الفكري واللغوي واصطِفافهم وراء طابور من العاملين على تمزيق شمل أمّتهم وتخريب هوية بلدانهم. وهي الفكرة ذاتُها التي كان ياسين قد استلهمها من حالة دفاع اضطراري حين وجد نفسه محشورًا في زاوية النقد الذي لاحقَه في كل مكان، من أبناء وطنه وأمّته الذين انتظروا منه الانخراط معهم في معركة التحرّر من الغزو اللغوي/ الثقافي/ الروحي الذي استهدف كل مكوّنات الهوية، فصار، يجعل من تلك الكلمة طَوقَ نجاةٍ وفرارٍ، معبّرًا عن حالته الخاصة وحياته التي عاشَها منفيًّا وأسيرًا بفكره وروحه ووجدانه، داخلَ لغة أجنبية حاول أن يمزِّق شَرنَقتَها ويُحدث ثُقبًا في جِداراتها ليخرج منها ناجيًا، فلم يتمكَّن قطّ. وحين أراد أن يكتب بالعربية لغاية نَفعية، عند امتهانه العمل المسرحي، اختار الدارجة عوض الفصحى. ولأنه كان لا يعرف سواها بعد الفرنسية، فقد وجد حاله مدفوعًا إلى التنظير لاختياره هذا، بعيدًا عن صدق الواقع، والاحتماء بحجة أنهاʺ لغة الشعبʺ. (كلمة حق أريد بها باطل).

كان كاتب ياسين يعتبر أن الفرنسية جاءت لتنقذه وأمثاله ممن كانوا في وضعيته، وتنتشله من الضياع والعدَم في فترة من تاريخ بلاده، كان من الممكن ألا يكون فيها شيئًا مذكورًا لو لم تتلقّفه تلك اللغة / المنفَى، أو اللغة / الزنزانة، وتجعل منه كاتبًا مرموقًا يُقرَن اسمُه إلى كبار أدباء الفرنكفونية الذين صنَعتهم أبواقُها والآلات الجهنّمية لإعلامُها، ونَحَتت منهم أصنامَها وتماثيلَها التي تُؤثّث بها معابدها، إذ لا بد لكل إيديولوجية من أصنام وتماثيل، بغضّ النظر عن القيمة الفنية الحقيقية لإنتاجهم الذي لا يُشترط فيه أن يكون دائمًا في المستوى الجيّد.

لم يكن بإمكان كاتبٍ أو مؤلِّف يتخذ من العربية لغةَ كتابةٍ، أن تتاح له فرصةُ الظهور والشُّفوف والانتشار، أو تكون له مكانة، في تلك الظروف التي سيطر فيها الاحتلال الفرنسي وهيمنت لغتُه على المجال اللغوي والثقافي هيمنةً مطلقة، وفي ظل القيود والموانع وحملة المضايقات التي فُرضت على العربية والثقافة الإسلامية وكُتّابها بشكل قاسٍ إلى أبعد الحدود. في تلك الظروف لم يكن متاحًا لياسين أن تبرز له ملامح، أو تتكوَّن له صورة، إلا إذا انتحلَ الفرنسية مِحبرةً وريشةً. فهي اللغة الوحيدة التي كان بيدها ذلك في ظل التعتيم والتهميش والحرب الضارية المبالغ فيها التي خاضها الفرنسيون ضد اللغة العربية، وهي الفرصة التي كان على كل محظوظ أن يَهتبلها إذا وجد نفسَه مطروحًا في طريقها.

كانت الفترة المبكّرة من طفولة ياسين، وقد أصبح يتردّد على المدرسة الفرنسية، قد شهدت عدة أحداث وصدور قراراتٍ مُجحفة للتضييق على وجود العربية ومتعلّميها في الجزائر، والتَّوسِعة، في مقابل ذلك، على متعلّمي الفرنسية والطامعين في اكتساب مكانة بسببها. ففي سنة 1938، على سبيل المثال لا الحصر، أصدر رئيس الحكومة الفرنسية المحتلة للجزائر كاميل شُوطان، قانونًا عُرف باسمه، يصف فيه اللغة العربية باللغة الأجنبية ويمنع استعمالها وتداولها في الجزائر التي كانت تُعدّ أرضًا فرنسية خالصة، وغنيمة سمينة حقًّا. وقبل ذلك بأربع سنوات، كان شُوطان نفسه قد أصدر، بصفته وزيرا للداخلية حينها، دورية نعَتَ فيها الصحافة الجزائرية الصادرة بالعربية، بنعت ʺالصحافة الأجنبيةʺ، ومنَع تداولَها والكتابةَ فيها. هكذا، بمطرقة القاضي الذي يقوم بدور الخصم والحكَم، أسكتَ صوتَ العربية وترك صوت الفرنسية وحده يُزلزل القاعة. بمسطرة قانونية بسيطة، جعل المحتلّ من العربية لغةً أجنبية، ومن لغته الفرنسية لغةَ البلاد الرسمية!! فكيف إذن، لا يكون شخصًا محظوظًا ذلك الذي دفع به أبوه إلى صفوف مدرسة فرنسية، بعد أن أخرجه من الكُتّاب القرآني إشفاقًا عليه من المضيّ في طريق لا يسلكه إلا المغضوب عليهم من بني جلدته وهم المعرَّبون الذين أصبحوا غرباء داخل أوطانهم؟ وكيف لا تصبح الفرنسية عنده، والحالة هذه، طوقَ نجاةٍ، وغنيمة حرب، وطاقية إخفاء يتسلّل تحتها إلى أضواء الشهرة؟

دخل ياسين إلى المدرسة الفرنسية ولم يخرج منها طيلة حياته، رغم أنه لم يكمل دراساته. وغادر إلى فرنسا واستقرّ بها وكتَب فيها كل مؤلفاته التي اشتُهر بها، فكانت حياتُه هنالك هي المدرسةُ الثانية والكبرى. وفي المدرستين معًا تشكّل وعيُه الثقافي والسياسي واللغوي والمعرفي، ولم يكن له من زاد غيرَ ذلك. فلما عاد إلى بلاده بعد سنوات طويلة، وجد نفسَه حبيسَ ذلك الوعي الذي نقَشته في ذهنه وعقله ثقافةُ اللغة التي ظل سجينَ أقفاصها وأسوارها إلى أن مات في مدينة فرنسية أيضا (غرونوبل)؛ ثقافةُ إشهار السيف على العربية الفصحى المشتركة التي حاربتها فرنسا بكل ما تملك، وبَنَت كلَّ أمجادها الاستعمارية على أساس هذه الحرب ʺالمقدَّسةʺ التي جنَت من ورائها مكاسبَ سياسية واقتصادية طائلة ما تزال تعيش على منافعها وغِلالها وثِمارها إلى يومنا هذا، ولاسيما بعد اكتشافها للآلة التدميرية الناعمة المعروفة ب ʺالفرنكفونيةʺ، وهو اسم الشهرة الذي اكتسبته السياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية فيما بعد.

قضى الرجل سنواته العشرين الأخيرة في الدعوة للدارجة والكتابة بها، والانخراط في حرب ضروس ضد العربية الفصحى وثقافتها وأهلها وما يرتبط بها من قيَم دينية وحضارية وتاريخية. عاش وهو يعتقد أن الاستعمار العربي الإسلامي كان أطول استعمار واحتلالٍ في حياة بلاده، فقد دام ثلاثة عشر قرنًا (وهذا كثير)، وفاق بذلك الاستعمار الفرنسي الذي لم يدم (وا أسفاه !!) سوى مئة عام وثلاثين عامًا، والاستعمارَ الروماني الذي لم يدم أكثر من ثلاثة قرون ونيّف، والاحتلال الوِندالي الذي كان أقل من ذلك بكثير… عاش متمرّداً على الجزائر العربية المسلمة كما قال، ومات في فرنسا على شهادة: «أنا لست عربياً ولا مسلماً، أنا جزائري».

ما هي الجزائر، يا مسكين، وما هو المغرب وما هي تونس وليبيا وموريتانيا، إذا جرَّدتَ كل واحدة منها من عُمقها الإسلامي والعربي دينًا وتراثًا وحضارةً وتاريخًا وعُمرانًا وعلومًا ومعارفَ وفنونًا، ومِن كل التراث الضخم الذي كتبه علماؤُها وأدباؤها ومفكروها وفلاسفتُها وأطباؤها ومهندسوها، والفقهاء والمحدثون، والمؤرخون، والجغرافيون، وغيرهم من أعلامها ورموزها وشوامخها، وتخلّت عن كلّ مقوّمات شخصيتها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ الإسلام بما هو دين وحضارة وعُمران وثقافة وقيَم إنسانية عليا، أعطى للجزائر وغيرها من الدول والشعوب التي كان لها شرفُ احتضانه، ولم يأخذ منها. أعطاها كلَّ شيءٍ ولم يأخذ منها شيئًا. وحَّدها ولمَّ شتاتَها الداخلي والخارجي مع شقيقاتها المسلمات، وسلَّم حكمَها وقيادتَها لأبنائها ولم يضعهما في يد الغرباء عنها. قوّاها ولم يُضعفها. أحياها ولم يُمِتها. والذي صنع كل هذا، في العهد الإسلامي، هو الإنسان المغاربي الذي امتزجت فيه الدماء العربية بالدماء الأمازيغية والإفريقية، والروح الأمازيغية بالروح العربية والإفريقية. هذا العطاء صنعه وساهم فيه الجميع، ولم يكن أحد قبل عصر الاحتلال الفرنسي، ينسب شيئًا منه للعرب وحدهم أو للأمازيغ وحدهم، وإنما يُنسَب للبلاد التي توحِّدهم، فيقال مغربي أو جزائري أو تونسي أو ليبي، ونحو ذلك. وإذا نُسِب المكتوب منه إلى العربية فلأنه مكتوب في جملته بالعربية، أي اللغة المشتركة الجامعة التي ظلت لغةً رسمية لدول المغرب منذ الفتح إلى اليوم. وإن كان قليل منه قد كتب بلهجات أمازيغية لكن بحروف عربية. ونحن نتحدث عن العصور الإسلامية، أما ما كان قبلها فما بقي منه معروف ومنسوب لأصحابه، وما اندثَرَ فيعرفه المؤرخون والباحثون ويردّونه لأصحابه أيضًا.

*أكاديمي ومفكر مغربي

( يتبع)

‏مقالات ذات صلة

Back to top button