‏آخر المستجداتلحظة تفكير

نورالدين العوفي: الجامعة بلا شرط (8 و9)

8 ـ

المكان الطبيعي للبحث العلمي هو الجامعة، و”الاكتشافات العلمية” منشؤها الأصلي هو الجامعة، والمراكز البحثية التابعة لها، أو المرتبطة بها. وتعتبر الأطروحة الجامعية أهم المخرجات التي عنها تتمخَّض عملية البحث، وهي عملية معقدة، دقيقة، شاقة، تحتاج إلى تعبئة الجهد الفردي والجماعي، وإلى التأطير الدؤوب والمتواصل، وإلى النَّفَس الطويل. للأستاذ المؤطر فضل لا يقدر في توجيه البحث نحو الكمال، وفي تمكين الطالب الباحث من المدارك النظرية، والأدوات المنهجية الأنسب ليس فقط لموضوع الأطروحة، بل أيضاً لإشكاليتها العامة، ولفرضياتها الرئيسية والثانوية. لكن الفضل كل الفضل يعود، في آخر الأمر، إلى الطالب الباحث، وإلى قدراته الذاتية، وتوظيفها التوظيف الأمثل لإنتاج قيمة بحثية مضافة، تغني المعرفة، تطورها، وتنقِّحها. الأطروحة بناء، تخطيط، هندسة، وتصميم، هي دراية بشروط البحث والتحليل، وإحاطة بالمتون والمصادر، و إلمام بالموضوع، قيوده وحدوده. الأطروحة ليست منظومة عشوائية، تذهب كل مذهب، لا يربط مباحثها ومفاصلها رابط، بل هي أسئلة هادفة، دقيقة، متشابكة، يأخذ بعضها برقاب بعض. الأطروحة، قبل كل شيء، استيعاب لما بحث فيه الأولون والسابقون؛ وهي إيضاً نقد، و دحْض، وتركيب، وتأويل، ثم اجتهاد، وإبداع، و تجاوُز. والفضل للمبتدي ولو أحسن المقتدي. مُخْطئ، أو واهم من يظن أنه الأسبق في الخوض في موضوعه أو أنه الأوحد في زمانه. من المشمولات الهامة للبحث العلمي فهرست المراجع والمصادر. ما يسترعي الانتباه في جُل الأعمال الاقتصادية الراهنة هو غياب المرجع الجامعي الوطني. المصادر الأجنبية هي الطاغية، وكثير منها لا يمُتُّ إلى الموضوع بصلة.

الأطروحة لا تقوم على النَّقل، أو على النسخ واللصق، إذ هي استشكال، كما سبقت الإشارة. من المُلْفت أن بعض الأطروحات لا تطرح أطروحة ، ولا تحمل إشكالية، بل هي من النوع الذي يصدق فيه قول عبد الله العروي : « المشكل هو غياب المشكل » (مفهوم التاريخ، ج ١). سبق أن قلتُ إن الأسئلة لا تُلْقَى على عواهنها، بل تنتظم تحت سُلْطة الأطروحة، تتفرَّع من فرضياتها مثلما تتفرَّع السواقي من النهر، لكنها تنْشدُّ إليها، لا تغادرها. يتشعَّب التحليل، ويتباعد، لكنه لا يتجاوز الهدف الذي هو إسناد الأطروحة نظرياً، وإثبات نتائجها، وخلاصاتها بالأدوات المتاحة، والمناسبة. الأطروحة الجامعية كشْفٌ علمي ومنهجي، بها يحصل التراكم، والتطور، والارتقاء بالمعارف. الشرط الأكاديمي هو ما يؤهلها لذلك، وتكون المناقشة بمثابة اللحظة الحاسمة، والفاصلة بين الأطروحة، وما دون ذلك.

9 ـ

لم تعد المناقشة كما كانت عليه، وليست كما ينبغي لها أن تكون. المناقشة لحظة فحْص، وكشْف، وسَّبْر، وتمحيص، وتقييم، وتقويم، هي جرح وتعديل. وهي اللحظة الحاسمة في تجربة البحث الجامعي، الحاكمة في الأطروحة، من حيث الشكل والمضمون، المبنى والمعنى، المنهج والأسلوب، التحليل والتأويل، القيمة النظرية والنتيجة العملية. المناقشة نهاية الأرب، يومئذ يفرح الطالب الباحث، ويسعد الأستاذ المؤطر، وفي البناء المعرفي تنضاف لبنة إلى لبنات. في أعقاب المحاضرة التي ألْقيتُها يوم الجمعة ٢٧ مايو ٢٠٢٢ في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس (أنظر تدوينة ٢٦ يونيو ٢٠٢٢) أخذ الكلمة الأستاذ الكبير عبدالرزاق مولاي رشيد، وذكَّر بمقالة كنت قد نشرْتُها في إحدى المجلات الوطنية تحت عنوان « في المناقشة » (لاماليف، نونبر ١٩٨١). كنتُ آنذاك أستاذاً مساعداً، أتهيَّأُ لإعداد أطروحة الدكتوراه في موضوع « العلاقة الأجرية، وإخضاع العمل في المغرب » ، ومِثْل آخرين، كنتُ من المواظبين على حضور المناقشات التي كان يحج إليها جمهور غفير من الطلبة والأساتذة، ويتابعون أطوارها أطراف النهار، وآناء الليل في بعض الأحيان. في المقالة المذكورة اقترفْتُ نقْداً لبعض ما كنتُ أراه « خروجاً عن النص » من طرف بعض أعضاء اللجنة، وانصرافاً منهم عن « المنهجية الأكاديمية » المعتمدة في المناقشة. كأنْ يقف التقييم عند العَرَضي، ويلف ويدور حول الجوهري، أو كأنْ يُزْجَل النقد في «الغائب» من الأطروحة، لا في « الشاهد »، أوكأَنْ يغوص المناقش في « ما وراء » الأطروحة متناسياً أنها (الأطروحة) محدودة من حيث إشكاليتها، ومحكومة بفرضياتها، ومؤطرة بمنهاجها. تسبَّبت لي المقالة حينئذ في بعض « المتاعب »، إذ رآى فيها البعض اجتراءً ل « التلميذ » على « المعلم »، وتطاولاً من « المقتدي » على « المبتدي ». وفي الحقيقة، لئن حدث أن ساء الفهم، «فما كان ذنبي باعتماد ولا قصد » (البحتري).

من يحضُر المناقشات اليوم، لا بد أن يلاحظ أن الجوانب المتعلقة بالشكل، أي باللغة، بالقواعد، بالإحالة، بالاقتباس، بالمصادر والمراجع، هي ما يستأثر بالنقد الوافر، بينما يتضاءل النظر في المضمون والمنهج لضحالة الأطروحة، لاضطراب إشكاليتها، أو لفساد فرضياتها في الأغلب الأعم. وهو ما يعني أن الأزمة التي يعرفها البحث الجامعي تنجم، أولاً وقبل كل شيء، عن الشروط الشَّكْلية، الإجرائية لإنتاج الأطروحة بخاصة، قبل أن تمتدَّ جذورُها إلى بنية البحث بصفة عامة. يسجِّل الطالب الباحث الملاحظات التي تسقط عليه مدراراً، ينتظر بفارغ الصبر انقطاع النقد، وتوقُّف « الجلْد »، ليأخذ أنفاسه، وبعبارة، أمست لازمة، عبارة محتشمة ومهزومة، يُعقِّب بأن « كل الملاحظات » كانت صائبة، وذات أهمية قصوى، وأنه سوف يسعى إلى أخْذها بعين الاعتبار. تنتهي المناقشة بلا مناقشة، بلا شرح، وتوضيح، وترافُع؛ ثم تقْضي المداولة بقبول الأطروحة، ليبْقى في نفْس أعضاء اللجنة شيءٌ من حتَّى. وقد لا يبقى في النفس شىء لأسباب منها أنَّ المناقشة لا تعدو أن تكون سوى بداية المجتهد، وأنَّ تدارُك النقص لا يأتي سوى بالمثابرة على البحث، وأنَّ الدِّراية لا تُدْركُ إلا مع الممارسة، وأنَّ المنهجية لا تصقلها سوى التجربة.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button