فنون وثقافةلحظة تفكير

حديث عن الشعر المغربي المعاصر: قراءة على قراءة “معايير موضوعية وإضافية لقراءة شعر الشاعرة مليكة العاصمي” (ح4)

كتبه الدكتور : مولاي علي الخاميري ـــ

قبل البدء :

قراءة شعر الأستاذة مليكة العاصمي هي قراءة مفتوحة ومُغرِية بالنسبة للقراء والباحــثـين لـــدى كــــل الأجيال بمختلف أطيافهم ومشاربهم وتوجهاتهم الفكرية ، وهذا يُعَد بيانا أوليا على قَبول ذلك الشعر والترحيب به ، واستيفائه للأسس الفكرية والجمالية التي تؤهله ، وتساعده على الحياة والبقاء ، وتزيد من مساحة انـــتــشاره واتساعه يوما بعد يوم .

وحتى لا أكرر ما قاله الدارسون في معالجاتهم ، ومعظمها في نظري يتسم بالذاتية الانطباعية ، والرؤية المباشرة سأتجه في بحثي هذا اتجاها جديدا وبأدوات ترصد آراء إضافية وعلمية ، لم تأخذ حقها الضروري بعدُ في النقاش العلمي الحر بسبب هيمنة ضيق الأفق ، وقصور الفهم ، وتَحَكُّمِ التعصب الأيديولوجي ، المنتمي لحقبة السبعينات والثمانينات ، وللأسف لا زلنا نعاني من ويلاته إلى الآن ، والكلام هنا يُقصَد به مسار نهج القراءة على القراءة ، ويتمثل بالنسبة لشعر شاعرتنا في مضمون مقدمة الأستاذ عبد الكريم غلاب رحمه الله لديوان : ( دماء الشمس ) كما يَعنِي ذلك التفكيك الذي تناول نماذج من معايير القراءة والنقد الكلية التي سادت وسيطرت على المنحى المعرفي النقدي المغربي إبان حمأة التجاذب الأيديولوجي المنتشر آنذاك ، والمثال الأبرز هنا هو كتاب الناقد المغربي صلاح بوسريف : ( المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر ) .

إذاً هي قراءة فوق أو على قراءة تجمعني مع الناقدين المذكورين ، وتقودنا جميعا إلى إعادة طرح نماذج من إشكاليات القراءة والنقد لشعرنا المغربي المعاصر انطلاقا من شعر الشاعرة مليكة العاصمي .

2 – ب – الذات والمضاعفات : المقصود حسب ما فهمت هو الجمع بين الوجود الحسي والتعــبــيــــر الإبداعي وفق رؤية متكاملة ، وقابلة للتغيير عما كان سائدا من قبل ، هنا يحضر مفهـــوم المجايلة من جديد وبنسق فيه شيء من الصحة والاتزان والقبول ، فالمطلوب من المبدع عموما هو مسايرة طرق الإبداع الحقيقية ، والتعرف عليها بملكته الإيجابية والمتفردة ، لا تتخذ من ذاتها وسيلة للرفض والقبول بتعصب وهوى ، وإنما تجعل منها متكأ جديدا يفسح ، ويضيف ، ويوسع ، ويشيد بالإبداع المعــتــبـر ، الحائز على المعاني الفنية كلها ، ولا بأس بمراعاة التوجهات الإبداعية القائمة على قـــواعد مـثــبــتة وصالحة ، وعلى رصيد مزدهر ومتطور ، يملك هويته الكاملة على مستوى الجمال والفكر .

كل ما ذٌكِر لا يمكن أن يتم إلا بتأثير من النَّزَعات الذاتية المتيقظة ، ومن مضاعفاتها المتبلورة انطلاقا من الرؤية والتوجه ، وشروط المشروع الإبداعي المرجو ، وأريد أن أثبت بداية بوجود تطابق يجمعني بالأستاذ بوسريف في بعض تحديداته النظرية لمعنى الذات وأشكالها ، مع الاختلاف في تمثيلاته الشعرية العربية والمغربية حين اكتفى بشعراء معينين كالشاعر محمود درويش ، وحين بقي أسيرا لجيل شعراء المغرب في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي .

ينطلق بوسريف في بناء معالم الذات الإبداعية من تصور كلي ينص على وجوب الانتباه إلى ( الانشغال القلق لعدد من الشعراء بضرورة انتباه الشعر إلى ذاته أو إلى ما يتوفــر عليه من إمكانيات تــؤهــله لأن يكون خطابا فاعلا ومؤثرا في ماجريات الأحداث والأشياء…..” 16 ” ) .

وبعدها ينتقل إلى شخصية الشاعر الفردية من جهة الوعي والحساسية اتجاه المواضيع المطروقة ( فما ينبغي الوعي به هو أن الجانب الحساس في شخصية الشاعر هو فرديته ، أناه ، لأن الشعر بما هو فردي ملزم على الدوام بمغادرة الجماعي لإثبات الجمالية المعارضة……فكلما كان الالــتـــزام عميقا ذابت فيه الفردية…..” 17 ” ) .

وعندما يريد أن يمثل يرجع إلى مفهوم المجايلة الـــذي صاغه على مقاسه الخاص ، ويصف جــيـــل الثمانينيات بأنه ( حقق انعطافات أساسية وراكم تجارب تميزت بإبدالات هامة ومتميزة أدت إلى انفتاح الشعر على فنون وأشكال تعبيرية ، لم يكن إلى وقت قريب قد عمل على ملامستها ، إضافة إلى اختراقه لموضوعات كان الاقتراب منها ما هو نوع من الخيانة لخطاب الالـــتــزام وعلى رأسها الــتــوجه نحو الخطاب الصوفي ، وكذلك موضوعة الحب الذي هو أحد مكبوتات ذواتنا……” 18 ” ) .

ولعله أحس بشيء من اللخبطة ما بين الاشتغال على الــذات في مواجهة مـــوجة الالــتــزام الطاغية في عصره ، وحصره التمثيلَ والاهتمام بجيل الثمانينيات فقرر أن يعود إلى الذات بوضوح أكبر ، ولكن مع ربطه بمفهوم آخر جديد هو مفهوم العالم ، أو العوالم الإبداعية المتاحة ، أي ما سماه ” برجة النص ” يقول : ( وتبقى أنا الشاعر هي سيدة هذه الإبدالات ، لأنها هي رجة النص الأساسية التي زلزلت ثوابته وقواعده ، وفـــتحت أفق الكتابة على ما هو أبعد من القصيدة ، وأرحب بكثير من شرائط وجودها ، فذاتية الشاعر- كما يقــول الجواهري – هي محور عوالمه كلها….ولو لم تكن هذه الذاتية لكان هذا الشاعر المفترض مجـــرد ناظم ، أو عابر على الشعر والثقافة ، أو بهما معا ” 19 ” ) .

نص فيه شيء من التوازن المتعلق بمفهوم الذات وعلاقتها بالإبداع عموما استدرك به مجموعة من هفواته السابقة ، وعلى رأسها إقامة تناظر متعارض ما بين مفهوم الذات والالــتــزام ، مما يعني أن الإشكالية المعالجة قد ضاق مجالها كثيرا ، ولم يعد للذات حضور عفوي أو تــلـــقائي في إثبات نفسها كعنصر أساسي في العملية الإبداعية ، وهذا ما ينبغي التفكير فيه مرة ثانية ، لأن كل النماذج الشعرية تقوم على مفهوم الذات بما في ذلك اتجاه الالتزام ، فلا يمكن تحقيقه إلا من خلال الذات ، ولا يمكن أن نميز بين أنماطه إذا ابتعدنا عن محورية الذات ، ومحاورها المتعددة ، والأستاذ بوسريف قد استشهد بموضوع الحب ، وهو موضوع كبير ، ولا يخلو منه عصر ، بل لا يخلو منه شعر على طول العصور الإبداعية ، ولا سبيل للفرز ما بين أنماطه إلا بواسطة الذات وإفرازاتها الدالة عليها .

هذا هو الملمح العام لإشكالية الذات ولكن عندما نرجع إلى شعر الأستاذة مليكة سنلاحظ سريان ذلك المفهوم العام على كل أشعارها ، فذاتها الإبداعية حاضرة بقوة ، وبلمسات متعددة ومتنوعة ، وقد ضَمِنَت لها الاستمراريةَ والتأثيرَ على جيلها ، وبقية الأجيال المتعاقبة إلى يومنا ، ولو لم نجد تلك الذات بهواجسها الثابتة والمتحركة لصعُب إلحاق الإبداع بأصحابه ، واستحال الفرز بين أشعارهم ، وبالتالي لسهُل الانتحال والادعاء ، وبسبب الذات وتطورها تولدت مقاييس القراءة من خلال بصماتها المميزة للمبدعين فيما بينهم ، فبكثرة القراءة والمعاودة وتكرار فعل المطالعة يحصل عندنا ما يشبه الحمض الإبداعي المتفرد الخاص بكل مبدع .

وفي شعر الأستاذة العاصمي مواضيع جديدة لم يتطرق لها أحد من قبل ومن بعد ، ويستحيل أن تقول فيها شعرا بدون الاتكاء والارتكاز على الذات ودواخلها المختلطة ، هنا سأستشهد بمقطع من قصيدة : ” وجع ” :

تنام المدينة في الليل
محزونة موجعة
قد يسيل نداها
على جنبات الوسائد
والليل مكتئب
ما له صاحب أو حبيب
تعذبه
ضربات المطارق
أو غربة الطير
أو هجرة النورس الفارقة
أو تعذبه
لوعة الشعراء
تصعد حارقة
من جحيم الظلام ” 20″ .

وأشير في نهاية الحديث عن الذات إلى عناوين بعض القصائد التي اراها تمثل نمط الذات المتجدد في مشاهده شعرية شاعـــرتنا ، وسأكـتــفي بما ورد في ديـــوان ” دماء الشمس ” :
قصيدة المهماز – قصيدة الكلب الأولى والثانية – قصيدة حاسوب……” 21 ” .

( يتبع )

ـ أستاذ جامعي – مراكش

‏مقالات ذات صلة

Back to top button